رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قط الحكومة الذى يجب أن يأكل الفئران!

حسنًا فعل أعضاء مجلس النواب حين قرروا أن يوصلوا صوت الناس للحكومة، ممثلة فى وزير التموين الدكتور على المصيلحى وأن يسألوه عن ارتفاع أسعار السلع بشكل لا يطيقه الناس ولا يتحملوه.. لقد قرأت فى الصحف أن النواب حاصروا الوزير بما يقارب ١٥٧ أداة رقابية من أسئلة وطلبات إحاطة.. فيما أمسك بعضهم بأرغفة الخبز المدعم فى أيديهم كدليل عملى على فقدان الرغيف وزنه القانونى بنسبة تقارب النصف أو الثلثين أو ربما الثلاثة أرباع أحيانًا.. وقد دافع الوزير عن نفسه كسياسى قديم ووزير ذى خبرة فى عدة حكومات وقال إنه غاضب مما ساقه النواب من أن الحرب الأوكرانية ليست هى السبب الرئيسى فى ارتفاع الأسعار.. وطرح مشكلة عدم وجود مفتشى تموين بسبب عدم وجود تعيينات فى الحكومة! وتحدث عن الإجراءات التى تقضى بوضع الأسعار على السلع الاستراتيجية التى لا يستغنى عنها المواطن وإلزام البقالين فى القرى بوضع لافتة تضم أسعار السلع التى يبيعونها كما كان الحال فى سالف الأزمان.. وشرح للنواب أنه ملتزم بأن يبيع بسعر السوق حتى لا يشترى السماسرة البضائع الرخيصة ويبيعونها بسعر أغلى.. واعترف الرجل بأن الوزارة ليس لديها تدخل فى تجارة الأرز فى مصر.. ولا تعرف أماكن مضارب الأرز وأن التجار تعاقدوا على شراء الأرز من الفلاح وهو ما زال نبتة خضراء وبالتالى كان من الصعب أن تتدخل الحكومة وقت حدوث الأزمة، لأن الأرز كان مباعًا للتجار الذين أخفوه ورفعوا سعره قبلها بعام كامل.. والحقيقة أننى رغم غضبى كمواطن من ارتفاع الأسعار.. بل وتضررى الكامل من هذا الارتفاع مثل أغلب المصريين إلا أننى أرى أن وزير التموين ليس هو المسئول الوحيد عن هذه الأزمة.. ليس فقط لأن السبب الرئيسى فيها سبب عالمى.. ولكن أيضًا لأن المسئولية الوزارية مسئولية تضامنية.. ووزير التموين ينفذ الجزء الخاص به من سياسة عامة ترسمها الحكومة.. والتى أظن أن عليها أن تراجع نفسها فيما يخص مجموعة السياسات الاقتصادية بشكل عام.. دون أن يعنى هذا أى تشكيك فى نزاهتها ولا كفاءتها العامة.. لكن المثل يقول إن لكل حادث حديثًا ولكل أزمة رجالًا.. ونحن نحتاج لأن تستعين الحكومة بمجموعة اقتصادية قوية تفكر فى حل الأزمة بطريقة مختلفة رافعين الشعار الذى رفعه الرئيس الصينى «زياو بينج» والذى قال فيه «ليس من المهم لون القط وهل هو أبيض أم أسود.. المهم أن يصطاد الفئران».. وبالتالى أنا أطالب الحكومة أن تفكر فى طريق عكس الذى سارت فيه فى الأشهر الماضية والذى أدى لتأخر حل الأزمة.. وعلى عكس ما طالب به بعض النواب من فرض التسعيرة الجبرية.. وغير ذلك من مظاهر التدخل فى حرية السوق.. لأنه سواء شئنا أم أبينا.. فإن نمط التنمية فى العالم كله اصطبغ باللون الليبرالى.. ولم يعد مسموحًا لمن يرغب بأن يسير فى طريق غير هذا الطريق.. وبالتالى فإنه ليس علينا فى مصر أن نغنى من كل فيلم أغنية.. فما دمنا نتعاون مع صندوق النقد ونطبق حزمة الإصلاحات الرامية لتخفيض عجز الموازنة وتقليص جميع أشكال الدعم العينى وتحرير سعر صرف العملة.. فإن علينا أن نطلق للمواطن العادى حرية النشاط الاقتصادى.. حتى تكون لديه فرصة للنمو والربح ومجاراة ارتفاع الأسعار الناتج عن إلغاء الدعم واختفاء تدخل الدولة فى الاقتصاد.. وبالتالى فلا بد من تشجيع المبادرة الفردية وكسر احتكارات مجموعات رجال الأعمال والسماح بنمو مستثمرين ورواد أعمال جدد.. ولا بد من تطبيع العلاقة مع القطاع الخاص لأقصى درجة ممكنة لمصلحة البلاد.. وأنا أستخدم لفظ التطبيع بما يحمله من مدلول فى أذهان المصريين للتأكيد على أنه لا بد مما ليس منه بد.. وأن لكل مرض من الأمراض طبيبًا مختصًا بعلاجه.. فلا يجوز أن نطلب من طبيب عيون علاج ثقب فى القلب، ولا من جراح تجميل إجراء عملية فى المخ.. فلكل حادث حديث ولكل مرض طبيب.. ولا يعنى هذا أن مصر ليست مبتلاة بممارسات إجرامية من شبكات المحتكرين ومصاصى الدماء والذين نمت ممارساتهم هذه عبر سنوات طويلة انفجر فيها التعداد السكانى.. وكان العرض فيها دائمًا أقل من الطلب.. وكان المصريون فيها مستعدين دائمًا لاستهلاك أى بضاعة تقدم إليهم مهما كانت رديئة أو غالية الثمن.. لأن التاجر المصرى يرفع شعار إذا لم تشتر سيشترى غيرك.. وإذا ذهبت فسيأتى مئات غيرك.. لأن مصر هى سوق عملاق لا يتوافر مثله فى الشرق الأوسط كله.. لأنه ببساطة لا توجد دولة تعدادها مئة وأربعة ملايين وتستضيف تسعة ملايين أخرى سوى مصر.. ولعل أكثر ما أكد هذا المعنى فى ذهنى هو المقارنات التى أجريها كمستهلك بين ما تقدمه المطاعم غير المصرية من طعام من حيث الجودة والسعر.. وبين ما تقدمه المطاعم المصرية.. فإذا أشتريت «نصف فرخة» من مطعم سورى مثلًا.. ففى الغالب ستجد أن الدجاجة من النوع العملاق وأن المطعم يقدمها لك مصحوبة بكميات جانبية كبيرة من الأرز والبطاطس والخبز والمخللات.. فى حين إذا ذهبت لمطعم مصرى لتشترى نفس «النصف فرخة» فغالبًا سيقدم لك نصف فرخة أصغر من كف اليد وستجده يعانى من الوحدة.. بلا أصناف جانبية ولا سلطات ولا مخللات.. اللهم إلا من رفيق وحيد يشكو سوء حاله إلى الله وبضعة ملليمترات من سلطة الطحينة.. وستجد أن السعر غالبًا أغلى من المطعم غير المصرى.. لأن المطعم المصرى تعود على أن الطلب أكثر من العرض.. وأن الناس تلتهم كل ما يقدم لهم وأن المنافسة غالبًا قليلة.. وأن أفواه الفاسدين مفتوحة.. وبالتالى هو غير مطالب بتحسين ما يقدمه للناس.. بل لعله يفكر فى مزيد من البضاعة السيئة أو منتهية الصلاحية لتحقيق المزيد من الأرباح.. وبالتالى فإن على الحكومة أن تفتح الباب لمزيد من المنافسة مع مقدمى السلع والخدمات.. وأن تفعّل جهاز حماية المستهلك الذى نسمع عنه ولا نراه.. وأن تحيى جهاز مكافحة الاحتكار من سباته العميق.. فهذه هى أدوات ضبط الأسعار فى السوق الحر.. الذى نحن مضطرون له اضطرارًا.. بل إننا متورطون فى آلياته حتى قمة الرأس وبالتالى فما دمنا فى روما فليس علينا سوى أن نفعل كما يفعل الرومان.. ولا يعنى هذا أننى كمواطن غير منتبه لألاعيب تحالف الفساد والتطرف ورغبتهم فى مزيد من إشعال نيران الأسعار.. فقد دخلت على أحد المتاجر الإلكترونية الشهيرة وبحثت عن سعر الأرز المصرى.. فوجدت شركة تتسم باللصوصية الواضحة وقد كتبت أنها تبيع سعر كيلو الأرز بـ٢٠٠جنيه مصرى!!! أى بعشرة أضعاف سعره الذى هو موجود به بالفعل والذى اشتريته به من البقال المجاور لمسكنى.. ولعل هذا اللص الذى عرض كيلو الأرز بهذا السعر الفاحش وغير الواقعى ينتظر اللحظة التى تلتقط فيها لجان الإخوان «سكرين شوت» لسعر كيلو الأرز الوهمى على المتجر الإلكترونى ثم تبدأ فى حملة بكاء وصياح وتشهير على السعر الوهمى الذى وصل له كيلو الأرز.. كلما كان الفيروس خبيثًا احتاج الجسد لمعونة من طبيب ماهر ومتخصص وربما نحن فى حاجة لمجموعة اقتصادية تملك «قطًا أبيض» بدلًا من «القط الأسود».. ما دام هدفنا جميعًا فى النهاية أن يأكل الفيران.