رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التعليم والثقافة.. تكامل لا تعاون

خبر اللقاء بين وزيرة الثقافة ووزير التعليم واحد من أهم الأخبار فى مصر هذه الأيام.. هذا حدث مهم يجب أن نتوقف أمامه ونحييه.. البيان الذى صدر عن اللقاء يقول إن الزيارة قامت بها وزيرة الثقافة وإن هدفها الاتفاق على العودة لمسرحة المناهج الدراسية لتقريبها من أذهان الطلاب.. معنى «المسرحة» واضح وهو تحويل المناهج لمشاهد مسرحية مما يقربها من أذهان الطلاب.. من وجهة نظرى فإن التعاون بين الوزارتين يجب أن يشمل ما هو أكثر من هذا بكثير.. بل إنه يجب أن يتحول من تعاون إلى تكامل ثم إلى وحدة اندماجية على حد التعبير السياسى الشهير.. التعليم والثقافة وجهان لعملة واحدة.. وهدفهما إعداد إنسان واعٍ لعالمه ويمتلك المعرفة الكافية لصناعة النهضة.. الأساس أن الوزارتين كانتا وزارة واحدة اسمها وزارة المعارف، ولم يكن غريبًا أبدًا أن طه حسين أبوالثقافة الحديثة فى مصر ظل مستشارًا فاعلًا لوزارة المعارف سنوات طويلة حتى تولى حقيبتها فى ١٩٥١.. حيث كان هناك وعى كافٍ بأن أمر تعليم المصريين يجب أن يتصدى له عقل ثقافى جبار مثل طه حسين.. والذى عالج كثيرًا من قضايا التعليم فى كتابه الرائد «مستقبل الثقافة فى مصر».. لم يكن غريبًا أيضًا أن نعرف أن كاتبًا عظيمًا مثل توفيق الحكيم كان موظفًا فى وزارة المعارف المصرية، حيث كان مديرًا لدار الكتب التابعة فى ذلك الوقت لوزارة المعارف، وبحسب رواية الأستاذ هيكل فقد رفض الرئيس عبدالناصر المساس بتوفيق الحكيم عقب الثورة مباشرة وفضّل أن يستقيل وزير المعارف «إسماعيل القبانى» من الوزارة على أن يتم المساس بتوفيق الحكيم أو إنهاء خدمته بحسب رغبة الوزير.. والحقيقة أن طه حسين وتوفيق الحكيم هما مجرد مثلين كبيرين على ارتباط كبار المثقفين بالتعليم وبأن هذا هو ما ينبغى أن يكون عليه الحال دائمًا.. وأظن أن التعاون بين التعليم والثقافة يجب أن يمتد لمجال المسرح المدرسى بمعناه الفنى وليس «مسرحة المناهج» فقط.. فلولا المسرح المدرسى فى الستينيات لما كانت لدينا مواهب مثل عادل إمام وأحمد زكى.. فعادل إمام يروى فى حواراته أنه عرف التمثيل للمرة الأولى فى مسرح مدرسة «بنبا قادن» الثانوية فى الحلمية، وأنه كانت لديهم ميزانية تسمح لهم بالاستعانة بمخرج من خارج المدرسة وبممثلة محترفة هى «محسنة توفيق» التى قدمت الدور النسائى فى المسرحية.. وتكرر الأمر نفسه فى ذكريات الراحل العظيم أحمد زكى الذى عرف المسرح لأول مرة فى مدرسة الصنايع الثانوية بالزقازيق.. حيث كان يُخرج مسرحيات المدرسة مخرج وممثل محترف هو الممثل وفيق فهمى الذى رحل مبكرًا بعد أن شارك فى بطولة عدد من الأعمال الكوميدية الراقية.. والمعنى أن المسرح المدرسى ضرورة عاجلة للتعليم والتثقيف واكتشاف المواهب وخلق مناخ مضاد للتطرف وثقافة التخلف.. فالطالب الذى يمثل أعمال موليير وفولتير وإبسن وغيرهم من كبار كتاب المسرح ويعرف تصوراتهم عن العالم.. هذا الطالب سيصبح محصنًا ضد أفكار التطرف والتخلف التى تخصص الإرهابيون فى نشرها فى المدارس خلال الخمسين عامًا الماضية وفق مخطط مدروس وتواطؤ واضح من بعض مسئولى الدولة.. وإذا عدنا للماضى المضىء فى الستينيات والذى نزلت عليه ستائر الظلام تدريجيًا فسنكتشف أن عددًا لا بأس به من فنانينا المحبوبين فى ذلك الزمن كانوا من كبار رجال التعليم المرموقين.. منهم على سبيل المثال لا الحصر محمد أحمد المصرى أحد رواد فرقة «ساعة لقلبك» الشهيرة الذى اشتهر باسم «أبولمعة»، وكان فى نفس الوقت ناظرًا لمدرسة السعيدية الثانوية وكان مشهورًا بالحزم والكفاءة.. وهو نفس ما ينطبق على الممثل الكوميدى الشهير فى الستينيات «إبراهيم سعفان» الذى كان موجهًا للغة العربية وشاع أنه ساهم فى تعليم الفنانة سعاد حسنى وتثقيفها قبل أن تلعب بطولة أول أفلامها وتعرف طريقها للنجومية.. والمعنى أن التعليم والثقافة دائمًا ما كانا شيئًا واحدًا حتى ولو انفصلا إداريًا.. وأن مجالات التعاون بينهما أوسع بكثير من أن تقتصر على مسرحة المناهج الدراسية.. فالبيت الفنى للمسرح يعمل فيه المئات وربما الآلاف من الفنانين المتميزين الذين يمكن الاستعانة بهم فى إحياء المسرح المدرسى وإخراج العروض التى يلعب بطولتها الطلاب بما يتضمنه ذلك من تثقيفهم وتعليمهم وفتح الأبواب لهم على عالم الفن الواسع والرحب.. وما ينطبق على المسرح ينطبق بالتأكيد على باقى فنون الثقافة.. فالمكتبات المدرسية تراجعت وأغلب الظن أنها فى حاجة للانتعاش بمطبوعات الثقافة الجماهيرية وهيئة الكتاب وغيرها من إصدارات وزارة الثقافة المختلفة، نفس الأمر بالضبط ينطبق على تعليم التلاميذ الراغبين فن صناعة الأفلام القصيرة أو كتابتها أو تصويرها من خلال المئات من خريجى المعهد والعاملين فى المركز القومى للسينما.. والأمر نفسه ينطبق على ثروتنا من المتاحف التى أظن أن عليها أن تفتح أبوابها للطلاب مجانًا.. تشجيعًا لهم على معرفة تاريخ بلدهم وثروته الدفينة من الكنوز الفنية المختلفة.. إننى أظن أن التعاون الصادق وغير الشكلى بين التعليم والثقافة هو اللبنة الأولى للفكرة التى حلم بها ثروت عكاشة مؤسس الثقافة المصرية حول تعاون الوزارات الخمس المعنية بالإنسان المصرى فى مجموعة عمل واحدة.. وهى فكرة أفسدتها للأسف الممارسات البيروقراطية الصغيرة والتنافس بين العاملين فى هذه الوزارات وعدم الإخلاص للفكرة.. إلى آخر السلبيات التى نحلم أن تختفى فى صيغة التعاون بين التعليم والثقافة تمهيدًا للانتقال لآفاق أوسع بإذن الله.