رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتاجرون فى اللون الأسود

كانت مصر التى رأيتها فى ليلة رأس السنة مختلفة عن مصر التى يصورها لنا البعض لسبب أو لآخر.. كانت مصر التى رأيتها هى مصر العفية.. الشابة.. المحبة للحياة.. التى تتلمس البهجة.. وتبحث عن الفرحة.. وتتعلق بالأمل.. وتتعشم فى الله.. ويحب أبناؤها الحياة ما استطاعوا إليها سبيلًا.. أما مصر فى منشورات البعض وبعيونهم فهى مصر كئيبة أو حزينة أو مأزومة أو يأكل أبناؤها «رجول» الفراخ.. أو يعانى شعبها من شدة تشبه فى هواها الشدة المستنصرية.. وقد قرأت هذه الترهات بالفعل فى منشورات هنا أو هناك لأشخاص أحترم بعضهم.. لكن هذا الاحترام لا يمنعنى أن أشخص حالتهم كمرضى نفسيين يعانون من الاكتئاب والعدمية.. وينظرون إلى العالم فيرونه مليئًا بالسواد لأنهم يرونه من منظور نفوس طالها السواد والعطب فلون نظرتها للعالم.. وفى بعض الأحيان فإن من يتحدث عن حالة «الاكتئاب العام» قد يكون سياسيًا فى مرحلة الأفول.. ينظر حوله فيرى أن الزمن لم يعد زمنه بحكم الطبيعة التى تجدد نفسها وبحكم ظهور أجيال جديدة تتحدث لغة مختلفة وترغب فى التخلص من الماضى المثقل بعيوبه وأخطائه ومصالحه ونرجسية بعض أفراد النخبة فيه.. إن هذا المسئول صادق فيما يقول.. لأنه هو نفسه يعانى من الاكتئاب لأن إحساسه بالسعادة مرتبط بتحقيق المكاسب كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة.. فإذا توقفت هذه المكاسب لحظة واحدة.. شعر بالاكتئاب وراح يسقط شعوره هذا على المناخ العام فيقول إن المصريين جميعًا مكتئبون! وإن المناخ العام تسوده حالة من الاكتئاب! وليس هذا هو النموذج الوحيد الذى يمكن أن يحدثنا عن السواد الذى يحيط بنا.. فهناك المثقف السوداوى وسوداويته نابعة من أنه حالم.. يحلم بعالم مثالى.. يسوده العدل والرخاء والمساواة.. لكنه ينسى أن علينا أن نعمل حتى نصل لهذا المجتمع المثالى وإن كان الكمال لله وحده.. بل إنه ينسى أن عليه هو شخصيًا أن يعمل حتى يخرج من سوداويته واكتئابه وشعوره بعدم التحقق وعدم التقدير.. حيث يتخيل بعض مثقفينا أنه يجب أن يحصل على كل الجوائز ويكتب فى كل الجرائد ويترأس عضوية جميع اللجان ويترأس كل الهيئات.. فإذا لم يتحقق هذا، ومن الطبيعى ألا يتحقق، راح يسكب سواده على الصورة ويتحدث باسم الجماهير الغفيرة التى لا يعرفها ولا يعرف عنها شيئًا منذ سنوات طويلة.. من ساكبى اللون الأسود وفى مقدمتهم بكل تأكيد أعضاء اللجان الإلكترونية والمقيمون فى فنادق أوروبا وآسيا والخليج فهذا عملهم اليومى الذى ترتبط به رواتبهم ومنافعهم ومخصصاتهم ولولاه لما سكنوا المنازل الكبيرة واقتنوا السيارات الفارهة فى لندن واستانبول وغيرهما من بلاد العالم.. حيث يجلس أحدهم فى مطعم خمس نجوم ليكتب منشورًا عن المصريين الذين صاروا يأكلون «رجول الفراخ» والدليل أن طبيبًا فى المعهد القومى للتغذية كتب منشورًا على صفحة المعهد يقول فيه إن هذا الجزء من الدجاج لا يقل فائدة عن بقية الأجزاء!!

كل هذه الأمثلة التى ضربتها هى أمثلة حقيقية لساكبى السواد على حياتنا ولمن يشيعون اليأس والإحباط بين الناس مقابل أجر معلوم ومنافع مشهودة وسلوك انتهازى باتت النخبة المصرية تعتبره شيئًا عاديًا للغاية، وتعتبر من يسلكه من «الشطار» الذين يعبرون من الفقر إلى الغنى ومن ضيق الحال إلى اتساعه فى سنوات قليلة.. راكبين ظهور الجماهير التى يتحدثون باسمها وباسم مشاكلها ويتاجرون بها فى أسواق النخاسة والنجاسة.. ولا يعنى هذا أبدًا أن الصورة وردية.. أو أن «الدنيا ربيع.. والجو بديع».. بالعكس.. نحن نعانى من مشكلة اقتصادية كبيرة.. يعانى منها العالم كله جراء الأزمة الأوكرانية وأزمة سلاسل التوريد وربما نعانى نحن أيضًا نتاج بعض القرارات المصرفية الخاطئة التى يتم حاليًا التعامل معها وإصلاحها.. لكن الحل للخروج من الأزمة ليس بكل تأكيد التبشير بالويل والثبور وعظائم الأمور.. وممارسة النواح بالإيجار.. ولكنه فى الدرس الذى قدمه هذا الشعب العظيم ويقدمه دائمًا.. فى حب الحياة والإقبال عليها ومواجهة المشاكل بالتفاؤل والاستمرار فى العمل وطلب البهجة فى الوقت نفسه.. وهذه هى رسالة الناس الحقيقية لمن يسرقون اللحظة ويركبون أكتاف الناس ويبشرونهم بالسواد القادم بينما هم ينعمون بالحياة.. تعلموا من المصريين أيها المتاجرون!