رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«من الظل».. عندما يصبح العالم أكثر شفافية بسبب رواية

 الكاتب «خوان خوسيه
الكاتب «خوان خوسيه مياس

فى كتابة يتحول فيها اليومى والعادى إلى غريب وملفت للانتباه ويصبح العالم أكثر شفافية، وللأشياء البسيطة أهميتها، وللتفاصيل الصغيرة دورها الهام بشكل ليس بسيطًا فى تشكيل عوالمنا المادية والماورائية، يعيد الكاتب «خوان خوسيه مياس» القيمة إلى الخيال فى الرواية، خيال ينطلق من أرض الواقع المادى، ينطلق من حياة الأشخاص وعوالمهم فى رحلة غرائبية ومجنونة. كاتب قادر على أن ينسج من التفاصيل البسيطة قصصًا عميقة، يرى فى كتابته أن المعنى الحقيقى للعالم يكمن فى التفاصيل الدقيقة التى ربما تكون ليست مرئية لنا ولا نعطيها أى اهتمام.

ومن خلال كتابته، يمكن القول إنه «مايسترو الغرابة» كما يلقبه النقاد الإسبان، وأحد أساتذة التكنيك السردى، وهو بالطبع ابن بار لكافكا وبورخيس، لكنه استطاع نقل هذه العوالم المجردة إلى عوالم حسية وملموسة، عوالم قريبة من كل منا بطريقة ما.

فى رواية «من الظل»، الصادرة عن منشورات «المتوسط»، من ترجمة أحمد عبدالليطف، يبدأ الكاتب «خوان خوسيه مياس» الرواية بحديث متخيل بين بطل الرواية الوحيد، الذى يُدعى دميان لوبو، وشخصية صنعها فى خياله باسم سيرخيو أوكان، شخصية يحاورها «دميان» فى أحلام يقظته، ويهرب إليها من الواقع الذى لا يعرف عنه إلا الوحدة، حيث لم يكن لسيرخيو أوكان أى وجود، إنه محض صورة مُتخيِّلة، ابتدعَها دميان لوبو، ليُكلِّم نفسَه من خلالها.

يتخيل «دميان» أنه فى برنامج تليفزيونى وسيرخيو أوكان مقدم البرنامج، الذى يحاوره، يحكى حكايات عن ماضيه وعن عائلته، يناقش أفكاره ومشاكله ويواجه مخاوفه من الحياة عبر الشخصية المتخيلة، وبقدر أهمية الموضوع وبكونه أكثر إثارة وجاذبية يزداد عدد الجمهور والمشاهدين للبرنامج.

ونتيجة انشغاله عن العالم المادى لفترة، يتسبب فى سرقة دبوس دون أى وعى منه بخطورة الأمر، سرقة دفعته إليها رأسمالية عالمه، وقد انتبه إلى أنه فعل ذلك لكونه خارج وعيه، إذ كان يخاف مما يفرضه الحَدَث من تغيير فى حياته، كما كان يخاف من المستقبل.

«الخوف أحد أكثر المشاعر المدمرة، إنه يحوّلنا بالفعل إلى هوام»، وهو قد عرف الخوف، فالخوف كان مسببًا للسرقة، ولكل ما حدث بعدها من أحداث غريبة، حيث تقوده هذه السرقة إلى التخفى بخزانة فى سوق للأثاث القديم والمستعمل، وتصبح هذه الخزانة بوابة إلى عالم آخر، يتلاشى فيه الزمن ولا وجود فيه للأبعاد المكانية، فهو عالم بعيد كل البعد على أن يكون ماديًا، وبداية من فعل السرقة تغيرت حياته، وتغير عالمه ليصبح أكثر شفافية كقطعة من الكريستال.

ينتقل لبيت عائلة من خلال هذه الخزانة، وبمجرد وصوله يجد حيلة يستطيع بها المكوث فى الخزانة دون أن يلفت انتباه أحد فى العالم المادى، يكرس حياته لخدمة هذه العائلة.

«كان يبدو له مريحًا أن يكون فردًا من تلك المجموعة، بوصفه شبحًا»، شبحًا مهمته تسهيل حياة هذه العائلة، بحيث إنه طوال فترة وجودهم خارج المنزل يقوم بالمهام المنزلية، والصيانة العامة لبعض الأشياء المعرضة للتلف، كان لا يجد نفسه فى أى دور من الأدوار الأخرى، فقط هو يمثل حضورًا غير مرئى ويستمتع بدور الرقيب.

حواراته مع الشخصية المتخيلة فى أحلام يقظته وفترات سهوه ظلت تلازمه وتفصله عن الواقع فى كثير من الأحيان، اعتاد على رؤية ما بعالمه المادى من خلال التنصت والشم دون الرؤية لأى شىء يحدث خارج الخزانة، اعتاد على أن يكون غير مرئى حتى استحال إلى شبح. 

اكتسب فى الحال بعض صفات الأطياف، الأطياف التى تعود أو التى لم ترحل بعد سواء لأنها لم تعثر على طريق أو لأنها تعلقت بأحد شئون العالم التى لم تُحلّ، وباستمرار يختلق دميان لوبو أفكارًا تنتقد عالم الحضور المرئى باجتماعيته وسياسته وسلوك أفراده، حوارات خيالية رشيقة تجمع بين العوالم النفسية الداخلية المختلطة لبطلها وبين واقع الحياة بكل تناقضاتها فى كثير من قضاياها، فيتطرق للحديث عن الرأسمالية وصعوبة بناء هوية خاصة تحت أنظمة اقتصادية محددة، والإنسانية وغيرها من الموضوعات، وعندما يفقد طبيعته ووجوده فى هذا العالم المادى يتساءل: كيف ظل خلال سنوات طوال بعيدًا عن هذا العالم الحقيقى؟.

الكتابة عند «خوان خوسيه مياس» هى عالم خالص من الخيال المصاغ بحرفية لفضح الواقع، فلا حد بين الواقع والخيال فى عالمه، هدفه دائمًا من الكتابة هو تحطيم الفاصل بين الواقعى والخيالى، بين الروح والمادة، كاتب يكتب بسطور مختصرة مركزة كيف تتوقف الحياة كلها وكيف تتمركز عند نقطة ما أو حادثة عارضة، تلك النقطة التى عندما تحدث تعرف أنه لا رجوع لما قبلها وأن كل الأشياء ستتغير من بعد حدوثها، رواية غرائبية مجنونة بطلها يملك السلطة على التحكم بالظل.