رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قصر البارون إمبان.. شاهد على التنوع المصرى

قصر البارون
قصر البارون

صاحبه أسس حى مصر الجديدة ومد خط المترو حتى يشجع المصريين على السكن هناك

القصر تعرض للإهمال حتى اشترته الدولة والرئيس السيسى أمر بسرعة الانتهاء من ترميمه

التاريخ المصرى يُشبه طبقات الأرض السبع.. كل طبقة تشكل حضارة مختلفة.. الفرعونى واليونانى والإسلامى والأوروبى... إلخ.. وكان كل حجر فى مصر يؤكد أن مصر هى ملتقى حضارات وبوتقة تنصهر فى داخلها الأجناس.. لا تنطبق هذه الحقيقة على شىء بقدر ما تنطبق على حى «مصر الجديدة» وعلى مؤسسه «البارون إمبان» الذى عشق مصر واستثمر ماله فيها.. وأهداها واحدًا من أجمل أحيائها ودفن فى داخل كنيسة من أشهر كنائسها.. لقد دفع حب مصر البارون إمبان لأن يبنى قصره الشهير فى صحراء شرق القاهرة، وأن يخطط لبناء مصر الجديدة أو هليوبوليس، وأن يمد خط الترام على نفقته من باب اللوق للحى الجديد حتى يشجع السكان على السكن فى الحى الجديد.. وبقدر ما أبدع فى بناء الحى الجديد وعماراته المختلفة.. أبدع فى بناء قصره الشهير فى طريق العروبة على طراز هندى آسيوى.. وقد ظل القصر عامرًا حتى وفاة نجل البارون إمبان وبيع الورثة للقصر لمطور عقارى احتفظ به دون تطوير فطالته يد الإهمال.. حتى اشترته الدولة من مالكيه.. وتأخر ترميمه حتى يناير ٢٠١١ فتعطل الترميم.. وعندما تولى الرئيس السيسى طلب سرعة الانتهاء من الترميم بتكلفة ١٧٥ مليون جنيه.. ليعود القصر لرونقه شاهدًا على التنوع والثراء المصرى الذى لا يتوافر لدول كثيرة جدًا جدًا حولنا.

تاريخ القصر

يرجع تاريخ بناء القصر إلى المليونير البلجيكى البارون إدوارد إمبان، الذى ولد فى ٢٠ سبتمبر ١٨٥٢، فكان مهندسًا ورجل أعمال، وكان أحد الهواة المولعين بالآثار المصرية، وخلال تسعينيات القرن الـ١٩، توسعت مجموعة شركاته بشكل كبير، فقد قام ببناء خطوط ترام كهربائية فى مدن بأوروبا وروسيا والصين والكونغو البلجيكية والقاهرة بمصر.

ويرجع سبب اختيار البارون الطراز الهندى لتصميم القصر؛ لأنه أمضى فترة من حياته بالهند، وفى نهاية القرن التاسع عشر بعد افتتاح قناة السويس بفترة قصيرة جاء إلى مصر، وكان وقتئذ يحمل لقب بارون وقد منحه له ملك فرنسا تقديرًا لمجهوداته فى إنشاء مترو باريس.

بمجرد دخول إمبان أرض مصر عشقها لدرجة الجنون واتخذ قرارًا مصيريًا بالبقاء فيها حتى الموت، وفيما بعد أوصى بأن يُدفن فيها، وحبه لمصر دفعه إلى بناء مقر لإقامته فيها فوقعت عينه على مكان فى قلب الصحراء، بالقرب من القاهرة، ليبنى قصر البارون.

وبعد استعداده بكامل طاقته لبناء القصر، عرض على الحكومة المصرية إنشاء حى كامل فى شرق القاهرة، واختار اسمًا له هو «هليوبوليس» التى تعنى «مدينة الشمس»، ووقتئذ حصل إمبان على الفدان بسعر جنيه واحد فقط، لأن المنطقة آنذاك كانت تفتقر لمقومات الحياة من المرافق والمواصلات والخدمات البدائية التى تساعد فى المعيشة بها.

إلا أن البارون كانت له رؤية لجذب الناس وإحياء المكان وازدهار المعيشة فى الحى الجديد، فقام بإنشاء مترو أخذ اسم المدينة مترو مصر الجديدة، إذ كلف المهندس البلجيكى أندريه برشلو، الذى كان يعمل فى ذلك الوقت مع شركة مترو باريس، بإنشاء خط مترو يربط الحى أو المدينة الجديدة بالقاهرة.

واتخذ البارون قرارًا آنذاك بأن يكون القصر أسطوريًا لا تغيب عنه الشمس، وبالفعل كانت تدخله الشمس من جميع حجراته، وأصبح من أفخم القصور التى شيدت على أرض مصر.

وأتى البارون بالمهندس المعمارى الفرنسى ألكساندر مارسيل بتصميم القصر، وقام بزخرفته جورج لويس كلود، واستلهم البارون فكرة القصر من معبد أنغكور وات فى كمبوديا ومعابد أوريسا الهندوسية، فكان آية فى الجمال.

وبعد أن ترك لنا تحفة معمارية ما زالت أسطورية تتحدث عنها الأجيال، رحل إمبان عن عالمنا فى يوم ٢٢ يوليو ١٩٢٩، فى مدينة ولويه ببلجيكا، ودفن فى بازيليك سيدة هليوبوليس كنيسة نوتردام دو هليوبوليس فى مصر بناءً على وصيته.

تطوير وترميم

بدأت أعمال البناء فى القصر عام ١٩٠٦م وافتتح فى عام ١٩١١م، بحضور السلطان حسين كامل، وأقام البارون إمبان فى القصر منذ افتتاحه إلى أن توفى عام ١٩٢٩، فانتقلت ملكية القصر إلى ابنه «جان» حتى وفاته عام ١٩٤٦، والذى دفن بجوار والده البارون فى كنيسة البازيليك.

ثم بعد ذلك انتقلت ملكية القصر إلى أحفاد البارون إمبان بعد وفاة والدهم «جان»، ومنذ انتقال الملكية تعرض القصر للإهمال لسنوات طويلة، ثم بيع فى العام ١٩٥٤ بمحتوياته لـ٣ أشخاص، عبر مزاد علنى بمبلغ قدره ١٦٠ ألف جنيه مصرى وظل مهجورًا. 

إلا أن عام ١٩٩٣ كان نقطة تحول فى مسيرة القصر، فقد تم تصنيفه رسميًا كمعلم أثرى، وعام ٢٠٠٥ تم شراء قصر البارون من قبل وزارة الإسكان وتم تسليمه للمجلس الأعلى للآثار، ولكن أعمال ترميمه توقفت بعد يناير ٢٠١١ ثم عادت بدعم من الرئيس السيسى، وتمت إعادة ترميم القصر مرة أخرى بتكلفة بلغت حوالى ١٧٥ مليون جنيه.

وتضمنت أعمال ترميم قصر البارون التدعيم الإنشائى لأسقف القصر وترميمها وتشطيب الواجهات وتنظيف وترميم العناصر الزخرفية الموجودة به، واستكمال النواقص من الأبواب والشبابيك.

كما تم الانتهاء من تنظيف وترميم الأعمدة الرخامية والأبواب الخشبية والشبابيك المعدنية وترميم الشبابيك الحديدية المزخرفة على الواجهات الرئيسية واللوحة الجدارية أعلى المدخل الرئيسى، والتماثيل الرخامية بالموقع العام، وفى ٢٩ يونيو ٢٠٢٠ تمت إعادة افتتاح قصر البارون مرة أخرى بعد الانتهاء من أعمال ترميمه وتطويره.

مكونات القصر

يتكون القصر من طابقين وملحق صغير بالقرب منه تعلوه قبة كبيرة، وعلى جدران القصر توجد تماثيل من المرمر رائعة لراقصات من الهند وأفيال لرفع النوافذ المرصعة بأجزاء صغيرة من الزجاج البلجيكى، وفرسان يحملون السيوف وحيوانات أسطورية متكئة على جدران القصر. 

وعلى الرغم من كبر مساحته، إلا أنه من الداخل حجمه صغير، فهو لا يزيد على طابقين ويحتوى على ٧ حجرات فقط، يضم الطابق الأرضى صالة كبيرة و٣ غرف، واحدة للضيافة والثانية للمائدة مليئة برسوم مأخوذة من أكبر الفنانين مثل مايكل أنجلو، وليوناردو دافنشى، وفى كل ركن من أركان الغرفة عمود يحمل تمثالًا هنديًا من التماثيل الثمينة، أما الغرفة الثالثة فخصصت للعب البلياردو. 

وهناك سلم رخامى يربط بين الطابق الأرضى والأول، ودرابزينه المزين بتماثيل هندية صغيرة دقيقة الصنع، تصل إلى الطابق الأول الذى يتكون من صالة كبيرة و٤ غرف نوم واسعة، أرضياتها من الباركيه ولكل منها حمام خاص مكسو ببلاط من الفسيفساء، ذات الألوان الزرقاء والبرتقالية والحمراء فى تشكيلات لونية متناسقة، ولكل غرفة شرفة خاصة محمولة على تماثيل الفيلة الهندية، وأرضيتها مغطاة بالفسيفساء الملونة، وبها مقاعد ملتوية تحيط بها التماثيل من كل جانب.

بينما السطح أو «البانوراما» فهو أشبه بمتنزه صغير، استخدمه البارون فى بعض الحفلات التى كان يقيمها لضيوفه، وكان السطح مكانه المفضل لتناول الشاى عند الغروب جالسًا يرى الشمس وهى تغيب، أما جدران السطح فعليها رسوم نباتية وحيوانية وكائنات خرافية، ويصعد إليه بواسطة سلم مصنوع من خشب الورد الفاخر.

أما الطابق السفلى «أو البدروم أو السرداب» فقد خصصه البارون للمطابخ وأماكن ركن السيارات وحجرات الخدم والمغاسل الرخامية، وهو يتصل بقاعة المائدة عن طريق مصعد مصنوع من خشب الجوز. 

أما عن الجانب الأيسر للقصر برج كبير، يتكون من ٤ طوابق يربطها سلم حلزونى، تم تزيين جوانبه الخشبية بالرخام وعلى درابزينه نقوش من الصفائح البرونزية مزينة بتماثيل هندية دقيقة النحت فى منتهى الجمال والروعة، وتحيط بالقصر حديقة غنَّاء بها زهور ونباتات نادرة وجميلة.

المقتنيات

تعرض داخل القصر مجموعة متنوعة من الصور والوثائق الأرشيفية والرسومات الإيضاحية والخرائط والمخاطبات الخاصة بتاريخ حى مصر الجديدة «هليوبوليس والمطرية» عبر العصور المختلفة، بالإضافة إلى أهم معالمها التراثية، ومجموعة متنوعة من الصور والخرائط والوثائق والأفلام تحكى تاريخ مصر الجديدة ومظاهر ونمط الحياة فى تلك الفترة الزمنية المميزة.

إضافة إلى مجموعة من التماثيل داخل القصر، منها تمثال مصنوع من الرخام الأبيض يقع أمام مدخل القصر، وتمثال نارسيس يقع أمام مدخل القصر، وهو مصنوع من الرخام الأبيض على يد المعمارى الفرنسى «أنطوان جارنو»، وهذه التماثيل تحمل قصصًا أسطورية فى الحضارات الأخرى، ومنها تماثيل بلاتين وذهب.

كما يضم القصر بعض التحف نادرة الصنع، فضلًا عن وجود قطعة نادرة جدًا وهى ساعة أثرية توضح الوقت بالدقائق والساعات والأيام والشهور والسنين مع توضيح تغييرات أوجه القمر ودرجات الحرارة، ويقال إنه لا توجد منها إلا قطعة واحدة فى قصر باكنجهام فى بريطانيا فقط.

يفتح القصر أبوابه يوميًا للجمهور من الساعة التاسعة صباحًا حتى السادسة مساءً، ويبلغ سعر التذكرة: ٦٠ جنيهًا و٣٠ للطالب، بينما الدخول مجّانى للأطفال تحت ٥ سنوات، ويستقبل القصر المئات من الزائرين يوميًا من المصريين والسائحين وطلاب المدارس والجامعات؛ للتعرف على أسطورة الأثر.

وكان آخر تلك الزيارات المدرسية ما قامت به إدارة التنمية الثقافية والتواصل المجتمعى بجولة إرشادية للقصر، على هامش الاحتفال باليوم العالمى لذوى الاحتياجات الخاصة بالتعاون مع إدارة التمكين الثقافى لذوى الاحتياجات الخاصة التابعة لهيئة قصور الثقافة، لعدد ٤٠ طالبًا من مدرسة التربية الفكرية بالزيتون.

مقترحات للتطوير

وخلال زيارة القصر قدم مجموعة من الزائرين مقترحات لاستخدام القصر بشكل يجلب زائرين، وهى: إقامة حفلات غنائية وشعرية شهرية بحضور كبار المطربين من مختلف أنحاء العالم، إضافة إلى عروض مسرحية شهرية للشباب والكبار من وزارة الثقافة والمسارح الخاصة، وتنظيم ندوات تثقيفية لكبار الكتاب المحببين للشباب، واستغلال مساحة القصر تفى هذا فهى تسمح للكثير من النشاطات، إضافة إلى إقامة مسابقات رياضية وثقافية ينظمها القصر بين النشء، فهذه المسابقات يتم الإعلان عنها عبر صفحة القصر ويشارك فيها الشباب والأطفال بالقاهرة بشروط وقواعد يضعها القصر وفى موضوعات يحددها، وهذا يعد نوعًا من الترويج والتسويق للقصر وفى الوقت نفسه مكسبًا كبيرًا وخدمة للمكان.

نشاط

منذ افتتاح القصر فى عام ٢٠٢٠، وتعمل إدارة القصر على قدم وساق من أجل خدمة الجمهور، من خلال تقديم مجموعة من الأنشطة الثقافية وتنظيم الندوات التثقيفية، فقد نظم العاملون بالقصر الموسم الأول من سلسلة ندوات «أعلام مصر الجديدة»، تحت عنوان «أعلام الثقافة بمصر الجديدة»، والتى كانت فى الفترة من ٢٧ أغسطس حتى ٢٤ سبتمبر. 

من ضمن الأنشطة التى قدمها القصر، نظم القصر بالتعاون بين إدارة التنمية الثقافية والتواصل المجتمعى، المعرض الفنى «إلا أنا» الذى أقيم تزامنًا مع اليوم الدولى لمناهضة العنف ضد المرأة فى بيت السنارى بمنطقة السيدة زينب، ضم المعرض ٤٥ عملًا فنيًا لمجموعة متميزة من الفنانين خلال هذا الشهر، كما نظم القصر ورشة عمل تزامنًا مع قمة المناخ تحت عنوان «التغيرات المناخية وتأثيرها على البيئة» لمجموعة من الطلاب.

كما يقدم المتحف أنشطة للطلاب وورش عمل فى مختلف الفنون والرسم، كما يعمل على تنمية مهارات الأطفال والكبار فى الفنون والوعى الأثرى والصحة النفسية والتنمية البشرية.

كما يقدم القصر دورات تدريبية لطلاب المدارس والجامعات وآخر دورة قدمها البرنامج التدريبى بعنوان «الآثار والتاريخ» خلال شهرى أغسطس وسبتمبر.

وللمتحف صفحة على موقع التواصل الاجتماعى تعمل على نشر ما يدور فى المتحف من أنشطة وندوات ومعارض، كما تنشر صورًا للقصر من مختلف الزوايا، وتعلن الصفحة عن كل ما يقدمه القصر.

زار قصر البارون شخصيات من مختلف أنحاء العالم سياسيون وفنانون وكتاب ورسامون وطلاب أجانب ورجال أعمال، وكان آخر الزائرين السيدة «لينا ناندان» نائب وزير وكيل أول البيئة والغابات وتغيير المناخ الهندية، وزير البيئة والغابات وتغير المناخ الهندى «بوبيندر ياداف».

من جهتها، قالت بسمة سليم، مديرة قصر البارون، فى تصريحات خاصة لها، إنَّ قصر البارون شيد فى حى هليوبوليس أحد أهم أحياء مصر وأهم التجارب العمرانية الفريدة، وهو أول قصر على الطراز الهندى بالشرق الأوسط، وإنَّ بناء القصر تمّ بطريقة القوالب والاسطنبات بأكثر من ٣٠ ألف قطعة تمّ جلبها من فرنسا، وتركيبها على الواجهات مثل قطع «الليجو».