رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

امنعوا الضحك!

معلوم أن الرصيد الهائل من التراث والثقافة الشعبية المصرية لدينا يحتشد بكم هائل من المواقف والحكاوى الطريفة والفكاهية التي تبدو في إطار الدراما الساخرة لمجرد الإضحاك تارة، وكوميديا سوداء تارة أخرى للوعظ وطرح الأمثال والعبر، ويرى أهل التنظير للأدب والفنون الشعبية أن ذلك يرجع لطبيعة الشعب المصري فهو بالسليقة "فُكهي" وساخر، والسخرية من أهم الموروثات التي حفظها له التاريخ، فهي المادة التي يجد فيها المناخ والإطار الأرحب المناسب للتعبير عن قضاياه، وأيضًا لمعارضة وتوجيه النقد للأعلى مكانة في كل مستويات الإدارة الهرمية على مر السنين عند الإحساس بالقهر..
وبمناسبة متابعتنا لدراما سيرة المبدع العظيم نجيب الريحاني "الضاحك الباكي"، نرى أن  فيلم "غزل البنات" الذي كتب له السيناريو والحوار بديع خيري وشارك في كتابته نجيب الريحاني خير مثال على ما أسلفت القول،  فقد كانت كل جملة فيه عبارة عن إيقاع لحركة حياة  تؤكد ذلك المخزون المصري الإنساني الساخر، لتخرج دراما الفيلم ساخرة في كل سؤال ورد بهدف اجتماعي وأحيانًا بإسقاط سياسي وشعبي ..
وعليه، فقد كانت المفارقات الكوميدية في الفيلم تفجر الضحكات على مدى أكثر من نصف قرن وقد سكنت الوجدان المصري والعربي، ولعل صياغة الحوار بوعي وتخطيط بحرفية كان من أهم أسباب ذلك التفاعل الجماهيري مع العمل.. على سبيل المثال المفارقات في مشاهد المقابلات الأولى للتعارف بين أبطال العمل ومنها ما دار من حوار بين الباشا وأستاذ "حمام" الذي ظن أنه الجنايني، والكلام بين حمام والرجل المسئول عن الكلب، ومحادثة المسؤول عن تقديم القهوة، جميعها تنطوي على مباريات حوارية تشير إلى العديد من القضايا الاجتماعية مثل تبعات الفوارق الهائلة بين الطبقات، والفوارق الثقافية والإنسانية.. فما يراه "حمام" أنه بالتأكيد "الباشا" يكتشف أنه مسؤول عن رعاية كلبه، ثم ما يراه أنه الجنايني يكتشف أنه الباشا، وفي المقابل ما يراه الباشا من حروف هي من "أخوات كان" لا بد أن يعترف بها "حمام" ليحافظ على لقمة عيشه ..
أما الحال الآن- للأسف- فإن الدراما الكوميدية في معظمها غاية في السطحية فيما يتم تناوله من قضايا، حيث التجريف الجاهل  للقيم الإيجابية والأخلاق والعادات والتقاليد الأصيلة المصرية، فهم يرون "الأصالة" على أنها لون من التخلف الاجتماعي في عصر العلم والتكنولوجيا، ويدعم ذلك التأثر بمنتجات مواقع التشرذم الاجتماعي، بعد أن أصابها الترهل والاستعباط والاستهبال، حيث الألفاظ الخارجة التى لا يمكن أن تجلب لنا ذلك النوع من الضحك النابع من القلب، ودوره الهام في صميم حياتنا النفسية والاجتماعية المصرية ..
أرى أن الكوميديا يمكن أن تنهض بوظائف تكاد تفوق ماكينات عمل مؤسّسات ضخمة بكامل عتادها وقواها، لأنّها تنسلّ إلى سويداء القلب وتداعب أسارير المرء بإسعاده وإمتاعه، فضلاً عن إفادته.. 
نعم، وهو ما يؤكده أهل البحث والتفنن أن الكوميديا تخاطب العقل قبل القلب، ولذلك هي واحدة من آليات دعم وتحريك المتلقي لها (أفراد / جماعات ) نحو الإصلاح والتطوير والإبداع، وليس من الإنصاف ما يدعيه البعض أنّ في ممارسة الضحك أو الابتسام ما قد يقلل من قدر وقامة المستخدم، أو إنّ في النكتة إيحاءات وإشارات ينبغي كبتها وتشذيبها، لأنّ الأمور لا تقاس بمنظار التفاهة والاحتقار والتدني، وفي الكوميديا ما يمكن أن نستخرج منها ما يدفع إلى التطهر.. 
ولأننا نعيش حالة جدب نسبي في إبداع أشكال من الدراما الكوميدية الحقيقية لتراجع حال مبدعيها لأسباب كثيرة، قد يكون من أبرزها التعامل مع أهل إبداعها باعتبارهم الأقل قدرًا  وقيمة، وعليه لا تذهب إليهم أو لأعمالهم الجوائز والتكريمات في المهرجانات إلا في حالات قليلة ولنجوم بعينهم ارتبطت نجاحاتهم بعائد شباك التذاكر.. وبتنا نبحث عن الريحاني وبديع خيري وإسماعيل ياسين وفؤاد المهندس وعبدالمنعم مدبولي وغيرهم من أهل الكوميديا بجد وبكل أشكالها ومدارسها في دراما اليوم، فلا نجد إلا تركيبات مشوهة ثقيلة الظل تفتقر الثقافة والرؤية باستثناء عدد قليل جداً على الساحة الفنية للأسف ..
وعليه، لا ينبغي أن يدهشك عزيزي القارئ والمشاهد انتشار برامج تليفزيونية حرصت بعض الفضائيّات العربيّة على إنتاجها ويتم تخصيصها لتبادل النكات والقفشات، والبعض منها للأسف ما كان ينبغي أن تروى أو ترى النور على شاشات التلفاز لقبح الشكل والمضمون والهدف، ولكنها من وجهة نظرهم بديل جديد لدراما البسمة المطلوبة والضحكة الهادفة التي غابت!!
في تأبين الفنان الكوميدي العبقري الراحل نجيب الريحاني كان للشاعر الكبير عزيز أباظة قصيدة رائعة يُعلي فيها ويُثمن كثيرًا دور الفنون وقيمتها في حياة الشعوب ودور فنون التمثيل والكوميدية منها على وجه الخصوص وعطاء نجيب الريحاني بشكل أكثر خصوصية في إسعاد الناس وتقديم فنون تبقى.. 
من هذه الأبيات يقول في تكريمه لنجيب الريحاني:
قر عينًا فمصر لن تنسى نجمًا مشرقًا كرمته بعد المغيب
خالد أنت والخلود زكاة الله تسدى للعبقري النجيب 
أذكر هنا تلك الأبيات وصاحبها ومن كُتبت في تخليده لأرصد هذه الحالة الجميلة من وحدة أهل الفنون والتواصل البديع بين مبدعيها في ذلك الزمن، وكيف كان يحدث ذلك التواصل بين أهل الإبداع رغم محدودية وسائل النشر والاتصال والإعلام، فقد كنا نشاهد على سبيل المثال لوحات ومعارض كاملة لسيف وأدهم وانلي ترصد وتحتفي بالفنون الأوبرالية والموسيقية، ونشاهد نجيب محفوظ وجماعة الحرافيش في معرض للفنون التشكيلية للمبدع عبدالهادي الجزار، وأمثلة أخرى كثيرة في هذا السياق كالتي أشارت إليها هذه القصيدة لشاعر رأى في ممثل قيمة يجب أن يتوقف عندها كل أبناء الوطن بالتحية والتحليل لإبداعاته.. 
ولا شك أننا في حاجة لكوميديا لمصالحتنا على وقائع الزمن الصعب، لأننا نعيش تحدي مواجهة المحاربات الخارجية والداخلية الخشنة والعنيفة.. إنها معاناة البحث عن سبل للخروج من دوائر الجدب الروحي إلى فضاءات السماحة والمحبة والسعادة، وعليه تزداد الحاجة إلى البسمة والضحكة والتبسط الفرح والمبهج المُحتوي والمًستوعب لكل المحيطين بحب وقبول ونحن نتابع وقائع تراجع مساحات التواد والتواصل والحضور الإنساني النبيل.. 
وحتى تحدث تلك الحالة من التصالح بين المُتلقي وأهل الإبداع الكوميدي، أرجوكم: امنعوا الضحك..