رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رجال وسجاير

كلما أطل علىّ عام جديد برأسه أجده يمعن النظر فىّ مستفسرًا: «ها.. ماذا ستفعل هذه السنة؟». أرد عليه بحزم: «سأقلع عن التدخين».

لكنى لم أفعل قط رغم كثرة وعودى، وفى رحلة ضعفى هذه كانت صورة نجيب محفوظ تقفز إلى ذهنى منذ أن كنا نذهب إليه فى ندوته الأسبوعية فى ميدان الأوبرا، وكان معظمنا يدخن، أما الأستاذ فكان يسحب سيجارة من علبته كل ساعة بالضبط من دون أن ينظر إلى الوقت فى ساعة يده. وحين تجاوز محفوظ التسعين سمح له الأطباء بسيجارتين فقط فى اليوم.

وعام ٢٠٠٧ كنا عنده فى العوامة «فرح بوت» أنا وأخى جمال الغيطانى، ومد الأستاذ نجيب يده إلى سيجارة فمازحه جمال قائلًا: «هذه ثالث سيجارة أستاذ نجيب»، فهز الأستاذ رأسه واثقًا وقال: «مستحيل.. إنها الثانية».

أدهشنى بعمق إرادته، الإرادة التى لم تحالف فنانين عظماء مثل سيد درويش الذى أغواه الكوكايين، وأحمد نجم الذى أغراه الحشيش، وغيرهما. وأعرف أن التدخين ضعف وأقرر مطلع كل عام أن أقلع عنه، قررت آلاف المرات منذ أن بدأت فى الرابعة عشر أقتبس، اقتباسًا وليس سرقة، سيجارة بعد الأخرى من علبة والدى أثناء نومه، فلما انتبه إلى ذلك دفع نحوى على سطح المكتب علبة كاملة وقال: «خذ.. دخن».

حاولت أن أنكر، فهز رأسه بشكل قاطع وأردف: «دخن.. بلاش كذب»، من يومها لم أسحب يدى من الدخان ولا توقفت أصابعى عن إشعال أعواد الثقاب، نحو ستين عامًا كاملة، طاردتنى خلالها صور ضعف بعض الأدباء وصور قوة إرادة البعض، وعلاقة ذلك بالإبداع والاستمرار فيه.

فى فبراير ١٩٦٨ تم اعتقالى مع أخى صلاح عيسى لنحو ثلاثة أعوام، وفى طرة اكتشفت أن السيجارة هى العملة الوحيدة المتداولة بين المعتقلين، فحلاقة شعر الرأس بخمس سجائر، كوب الشاى باثنتين، وهكذا. وكانت إدارة الحياة المشتركة بين اليساريين تصرف لكل منا ثلاث سجائر فقط فى اليوم، فاقترح صلاح أن نقوم بتقسيم كل سيجارة إلى ثلاث قطع، وكان عندنا طابور فسحة فى فناء رملى، فكان صلاح يتأمل أعقاب سجائر طويلة مرمية فى الرمل ويهمس ضاحكًا: «ثروات ملقاة على الأرض يا أبوحميد!». ظللنا فى هذا الحرمان إلى أن ساقوا إلينا شابًا معتقلًا جديدًا لا نعرفه، تبين أنه من الأثرياء، وكان يحمل فى جيبه دائمًا علبتين كاملتين!! وتبين، لحسن حظنا وسوء حظ الشاب، أنه من هواة التأليف المسرحى، ولما كان المهتمون بالأدب قلة فى العنبر فقد طلب منا أنا وصلاح أن يقرأ علينا فصلًا من مسرحية كتبها، وكان يجلس على الحشية بالقرب منا ويقرأ، ونحن نردد مع كل كلمة: «الله.. الله.. أعد هذه السطور»، وتمتد أصابعنا إلى علبته ونحن نتنهد من شدة التأثر بالفن. ظللنا عدة شهور نقرأ فصلًا واحدًا من ست ورقات، ويختلج وجهانا بالتأثر، وتختلج أصابعنا نحو العلبة. وبالطبع لم يكن المؤلف ليبخل على حركة النقد النزيهة بشىء. وحين جاءنا الشاب ذات يوم يائسًا ليعلن أنه سيتوقف عن الكتابة حل علينا الذهول، وصرخت فيه: «لاء.. لاء.. إياك أن تتوقف.. هذه كارثة.. واعلم أن موهبتك ليست ملكك وحدك»!

أتذكر كيف كنا فى روسيا ندخن السجائر الروسية وكانت سيئة مشبعة بالرطوبة، فكنا نضع العلب قبل أن ندخنها على مدفأة لطرد الرطوبة أو كما كنا نقول: «من أجل تحميصها»، وعندما عدت إلى مصر زارتنا زميلة كانت لا تزال تدرس هناك وقدمنا لها سيجارة مارلبورو فأمسكتها بين أصابعها وسألتنا بجدية: «محمصة؟» مع ذلك كله فإننى مع إطلالة العام الجديد سأكف عن التدخين، حتى لو احتاج الأمر فى البداية إلى فنجان قهوة. وسيجارتين.. عام جديد سعيد نحقق فيه بعض الأمنيات الطيبة.