رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«لا تخبرهم أنك نجيب محفوظ».. تفاصيل وصية كامل الكيلانى لأديب نوبل

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كتب الروائي مصطفى نصر عن علاقة الوظيفة بالأدب، وذلك في مقال نشره على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك".

الوظيفة والأدب

يقول مصطفى نصر: "يحكي أديب نوبل نجيب محفوظ أن الدكتور منصور باشا فهمي - أستاذ الفلسفة بكلية الآداب - كان عقلًا فذًا، بشر في وقت ما بثورة فكرية في حياتنا الثقافية، لولا وشاية حقيرة أجهضته قبل أن يقف على قدميه، فقد زعموا فيها أنه طعن في الإسلام - ضمن رسالة الدكتوراة التي قدمها للسربون - واتهموه بالإلحاد، وطالبوا بفصله من الجامعة. وهو لم يكن ذا طبيعة مقاتلة، ولا قبل له بتحدي الرأي العام، فضلًا عن حرصه على وظيفته وشدة حاجته إليها، فأنكر التهمة ودافع عن عقيدته، وتوسل بكثيرين، وعلى رأسهم صديقه وزميله في هيئة التدريس -  الشيخ الدكتور مصطفى عبدالرازق-  والظاهر أن المحنة جعلت الدكتور منصور فهمي يركز نشاطه في دروسه الجامعية وينسحب من الحياة الفكرية خارج جدران الكلية.

مصطفى نصر

ويضيف: "ما حدث يعبر بوضوح عن العلاقة بين الموظفين في العمل بصفة عامة، خاصة في المجال الثقافي والعلمي. فأمر طبيعي جدًا أن يهاجموا أستاذًا ناجحًا مستخدمين اتهامات، هم أول من يعلم بكذبها، وإنما الدافع الحقيقي هو حقدهم عليه، ومن الأمور العادية أن يتهم كاتب كبير وموهوب وناجح في عقيدته، وقد حدث خلاف بيننا في الإسكندرية منذ سنوات طويلة، فأرسل زميل لنا لكاتب قاهري واتهمنا بالشيوعية، وهو يعلم أن هذا غير حقيقي، وكان دافعه النيل منا، وفي فترة تلونت الإسكندرية الثقافية بلون الخيانة، فقد تعامل البعض ثقافيًا فيها مع إسرائيل، فحذرت من مغبة اتهام الناس بالباطل، فكنت أعلم أن البعض سيتخذ هذا ذريعة للنيل من كتاب ناجحين، يعلم الكثير من الأدباء أنهم شرفاء، لكن نجاحهم هو السبب في اتهامهم بأشياء لم يفعلوها، وأذكر أن الشاعر المرحوم عبدالمنعم الأنصاري قابلني أيامها وشكرني، لأنني كنت مهتمًا بعدم اتهام الناس بالخيانة دون دليل".

نجيب محفوظ وكامل الكيلاني

ويواصل: "ويحكي نجيب محفوظ عن علاقته بالكاتب المعروف كامل الكيلاني، فقد جمعت بينهما مودة صميمة، منذ أول يوم دخل فيه محفوظ الخدمة في وزارة الأوقاف، كان كامل كيلاني يشغل وظيفة وكيل السكرتارية، وعندما عرفه محفوظ، شد على يده بحماس شديد، فقد كان معجبًا بمقالاته في التراث، والموظفون - في مكتب السكرتارية - يرمقونهما بفتور وقرف، فزملاء كامل كيلاني يعتبرونه مغتصبًا للدرجة السادسة باسم الخزعبلات التي يؤلفها ويزعم أنها أدب، فالموظف القح - في رأيهم - لا يحترم عادة إلا الموظف "الحقيقي" الخبير في الإدارة واللوائح، أما تأليف الكتب فيعد - عندهم - نوعًا من العربدة التي لا تليق بالمحترمين من الموظفين.

لم يحصل على الابتدائية

ويستطرد: ويحكون أن كامل كيلاني كان كاتبًا بالأرشيف - كما ينبغي له - فحتى الابتدائية لم يحصل عليها، لكنه دأب - كلما تولى الوزارة وزير جديد - أن يحمل إليه مجموعة من مؤلفاته مصحوبة بإهداء شعري، وكان الوزراء يتقبلون الهدية شاكرين، حتى جاء للوزارة رجل يحب الأدب فأعجب بكامل كيلاني ورقاه للدرجة السابعة، ثم بعد عامين إلى السادسة مع نقله وكيلًا للسكرتارية، وفي المرات القليلة التي جلست فيها مع نجيب محفوظ بالإسكندرية، سمعته يحكي عن كامل كيلاني، فقال، سألني مرة: 

- أنت نجيب محفوظ الذي ينشر في الجرائد والمجلات؟

فأجابه محفوظ بنعم.

فقال له: 

- لا تخبرهم هنا بذلك حتى لا يسيئوا إليك، كما يسيئون لي. 

هذا ما يحدث في كثير من الكليات - خاصة المتعلقة بالأدب والصحافة، ففي كليتي الآداب والتربية في الإسكندرية، بعض الدكاترة على صلة بالأدباء والإعلام، وهذا ليس جديدًا ولا غريبًا، فطه حسين عندما كان أستاذًا في الكلية، كانت له أنشطة أدبية وإعلامية بارزة، وكذلك فعل الدكتور محمد مندور والدكتور عبدالقادر القط والدكتورة سهير القلماوي وغيرهم، لكن بعض الدكاترة لا يعطون اهتمامًا لهذا، ربما لعدم قدرتهم على ذلك أو لإحساسهم بأن هذا العمل ينتقص من مكانتهم العلمية. 

ويكمل مصطفى نصر: "وقد عملت بشركة الورق دون واسطة، فمن حسن حظي أن رئيس الشركة كان صديقًا مقربًا للكاتب الكبير عبدالحميد جودة السحار، فاشترط في المعينين الجدد أن تكون لهم اهتمامات رياضية أو ثقافية، وعندما قابلني أعجب بي وكنت الأول، وعينوني في أفضل مكان مناسب لمؤهلي، وهو الحسابات - وتقابلت في الشركة مع نوعين مختلفين، فالبعض رحب بي لأني كاتب، وقد استفدت من زميل - أكبر مني سنًا - محب للقراءة، شجعني بحماس شديد، وكان يذهب معي لمكتبة البلدية نستعير الكتب منها، وحدثني عن سلسلة كتابي لحلمي مراد، ولم أكن قد سمعت عنها قبل مقابلتي له. ومدير الحسابات سعد لأني أنشر في الصحف والمجلات، وأظهر أحيانًا في التليفزيون، وكان يقول لي مداعبًا، ومعترضًا عما قلته في التليفزيون:

- أنا علمتك تقول كده؟!

وسهل لي أمورًا كثيرة، لكن البعض كان كارهًا لي. فقد تحدث زميل معي، فقلت: "نحن الأدباء" فصاح زميل آخر قائلًا في اعتراض:

- أهو عمل نفسه من الأدباء.

فقلت له:

- لقد نشرت في الأهرام، وفي روايات الهلال، وأصبحت عضوًا في اتحاد الكتاب، فلماذا لا أكون أديبًا؟!

ظل هذا يؤرقه ويعذبه. وزميل آخر يعمل بإدارة التدريب، يكتب مسرحيات، ويهتم بقضايا العمال، فأعد برنامجًا عماليًا في القناة الأولى بالتليفزيون.

فسألت زميله -  الذي يعمل معه في الإدارة، وهو  صاعد السلالم:

- شفت برنامج زميلك فلان الفلاني في التليفزيون أمس؟

كان قد صعد عدة درجات، ثم نظر نحوي قائلًا:

- مش يمكن تشابه أسماء يا أستاذ مصطفى؟

لا حول ولا قوة إلا بالله، غير قادر على أن يصدق أن زميله - الذي يجلس بجواره في مكتب واحد - يعد برنامجًا تليفزيونيًا.

واتصلت بي دار الهلال وابلغوني بأن إعلانًا عن روايتي الهماميل الصادرة عنهم، سيذاع في التليفزيون يوم كذا وفي الساعة الفلانية. فأعلنت هذا في الشركة التي أعمل بها، ودخلت حجرة من الحجرات، فسألتني زميلة عن موعد إذاعة الخبر. وأجبتها، فقال زميل لها - علاقتي به علاقة جيدة جدًا:

- ستظهر في هذا الإعلان؟

قلت: لا.

قال في قرف وضيق:

- وفالقنا بالإعلان ده، وبعدين هي الناس لاقية تاكل لما حاتروح تشتري كتب؟!

وعدت من مكتب سعيد سالم في المصنع ممسكًا بمجلة منشور بها قصة لي، كانت عند سعيد يقرأها، فقابلني مهندس من مهندسي الشركة في الطريق، سألني عن المجلة التي أمسكها، فقلت:

- كانت عند سعيد سالم.

قال: 

- أنت حتعمل زيه، لما تنشر لك حاجة، تدور تلف بيها وتوريها لده ولده؟!

فتركته وعدت لمكتبي بعد أن شعرت بالحزن والأسى لموقف البعض مني، محاولًا إخفاء المجلة عن الذين قد يقابلونني في الطريق.