رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حفيف صندل

توقف بى الميكروباص عند الكيلو ٢١ من الإسكندرية، حيث تصطف السيارات المتجهة إلى القاهرة، هبطت تتأرجح على ظهرى حقيبة صغيرة خفيفة، وامتد أمامى ميدان تنفتح عليه مثل الأسهم عدة شوارع غاصة بالحركة.

لبثت أتلفّت بحثًا عن موقف سيارات القاهرة، فوقعت عيناى على رجل نحيف فى حوالى الأربعين فى سروال ضيق مهترئ وقميص عليه حروف إنجليزية باهتة، قدماه فى صندل بلاستيك مفتوح، نظرت إلى أصابع قدميه العارية فسَرَت منها فى بدنى قشعريرة الجو البارد.

رأيته وقد مال بصدره وذراعيه على واجهة سيارة ملاكى، يمسح زجاجها بدوائر من خرقة متسخة، قلت له: «أين تقف سيارات القاهرة؟».

ارتد بجذعه للوراء وأمعن النظر فىّ طويلًا وأنا أعاين شعر رأسه الأبيض الهائش دون أن أعرف إن كان ذلك لون الشيب أم أنه بياض جير عمال الدهان، رمش بعينيه بفتور شخص لم يغسل وجهه طويلًا، ثم رفع ذراعه ببطء يشير إلى كوبرى: «هناك.. تحت ذلك الكوبرى».

خرجت كلماته مثل بقبقة غريق لا يقوى على إطلاق صوته، حروفًا داخل فقاعات هواء، التفتُ إلى حيث أشار وقلت له: «نعم.. رأيت الكوبرى».

توقعت أنه سيولينى ظهره ويرجع إلى زجاج السيارة يلمعه بالخرقة السوداء، لكنه ظل يحدق بى فى ثبات متخشبًا فى مواجهتى كأن ثمة حديثًًا معلقًا لم ينته، سددت إليه نظرة أحاول أن أخمن ما الذى يحجم عن قوله، فلم أرَ سوى نظرة جوع غائر فى ذكرياته وارتجاف شفتيه.

فاضطرب شىء فى دمى، وأخرجت ورقة بخمسة جنيهات ناولتها إياه وأوليته ظهرى، مشيت عدة خطوات وما لبث أن تناهى إلىّ حفيف صندله يزحف خلفى وصوته مهشمًا: «ليس الصف الأول من السيارات.. الصف التالى على اليمين».

التفتُ إليه، كان رأسه يرجف مثل طائر لا يقوى على الرفرفة، قال: «الصف التالى على اليمين»، أردف: «حضرتك عرفت؟».

ناولته ورقة أخرى بعشرة جنيهات، استبقاها فى راحة يده يمر عليها بأطراف أصابعه كأنه يستمد منها الدفء.

قطعت عدة خطوات للأمام فتبعنى يقول: «هناك سيارات تذهب بك إلى المرج وأخرى إلى ميدان رمسيس، لكن رمسيس أحسنلك.. رمسيس أفضل لحضرتك»، وحدق بى بعينين تخترقان الفضاء وتسقطان على الأرض بلا أمل.

تمتم: «حضرتك عرفت؟»، وبقى جامدًا تتدلى خرقة القماش من يد ويده الأخرى تمر على الحروف الإنجليزية الباهتة فوق قميصه، سحبت من جيبى ورقة مالية أخرى ناولتها إياه، قبض عليها بقوة ورفع بصره نحوى: «خلاص.. حضرتك عرفت، خلاص.. إنت عرفت».

أولانى ظهره بحزم هذه المرة، مشى وهو يتلفت حوله فى سيره، تابعته ببصرى وهو يبتعد شيئًا فشيئًا، هبّت على الميدان زوبعة باردة من البحر فرقته خيوطًا تتأرجح فى الريح، فلم يبق سوى صندل، وحفيف قلب يحتك بالأرض.