رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تحولات حتمية تحتاج إلى اجتهاد.. كيف يواجه المثقفون عصر الذكاء الاصطناعى ومرحلة «ما بعد الإنسان»؟ «3-3»

أثرت الثورة الرقمية، ومواقع التواصل الاجتماعى على القادة السياسيين فى عالمنا، بنشر أخبارهم وآرائهم، واستعراضاتهم، وبعض من حياتهم، من خلال اهتماماتهم بأن يكونوا جزءًا من مواقع الاتصال بالرد على بعضهم بعضًا، أو إبداء التصريحات إزاء بعض الوقائع والأزمات.. إلخ! 

الرقمنة تعيد صياغة العالم المابعدى فى عصر الثورة الصناعية الرابعة، التى لا تزال بعض بقايا السيولة، والاضطراب وعدم اليقين تشير إلى تعلقات المراحل الماقبلية السياسية والثقافية والتعليمية فى عمليات تشكل العالم الجديد المختلف، وحيث باتت وسائل التواصل الاجتماعى معبرة عن حنايا هذا العالم ومشاكله، ومليارات المنشورات كل لحظة فى ظل انكشاف كونى لعالم جماهير العاديين الفعلية والرقمية المليارية الغفيرة.

- من الشيق أيضًا أن الواقع الرقمى بات يلعب أدوارًا مهمة كانت تقوم بها أجهزة الدولة الأيديولوجية فى الدولة الشمولية، والتسلطية فى زمن الصراعات الأيديولوجية والرمزية أيام الإمبراطورية الماركسية، ودول رأسماليات الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال، وهى أدوار التعبئة والحشد والتبرير للخطابات السياسية للقادة فى عصر الثورة الرقمية، توظف بعض الجماعات والأفراد وسائل التواصل الاجتماعى فى المناصرة والمساندة والتعبئة كجماعات الضغط فى مجال البيئة، وحقوق المختلفين جنسيًا- المثليين والمتحولين- وحقوق المرأة. من ناحية أخرى بناء جماعات ضاغطة على نحو ما فعل بعضهم فى بناء السترات الصفراء فى فرنسا، لمواجهة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية لبعض شرائح الطبقات الوسطى، والعمال.. إلخ.

- هناك أيضًا استخدام وسائل التواصل فى أشكال الاحتجاج والمعارضة لمشروعات القوانين أمام البرلمان، أو إزاء تشريعات ظهرت آثارها السلبية على بعض الشرائح الطبقية.. إلخ.

- وسائل التواصل الاجتماعى، وعالم البيانات الضخمة ساهم فى إعادة تشكيل وإنتاج السلع والخدمات فى ضوء رغبات قطاعات واسعة من مليارات البشر على تعدد ثقافاتهم ودولهم ومجتمعاتهم وأعراقهم وقومياتهم ومناطقهم وأقاليمهم، من خلال اهتماماتهم الظاهرة على مواقع التواصل الاجتماعى، والأهم إعادة تشكيل رغباتهم وسلوكهم الاستهلاكى فى ظل هيمنة نزعة كونية استهلاكية مفرطة، تساهم فى إعادة تشكيل الوجود عبر الاستهلاك ودمج بعض من معنى الحياة فى الاستهلاك المفرط فى غالب مناحى الحياة، من الأكل إلى الشراب، إلى الملبس والموضة، واقتناء السلع، والسفر للسياحة إلى قضاء أوقات الفراغ.. إلخ! المعنى هنا محمول على كثرة السلع والخدمات، وتنوعها فى الشكل على الرغم من أن غالبها فى كل سلعة متعددة الأشكال واحد من حيث مكوناتها فى الغالب، ووظائفها الاستهلاكية. الاستهلاك المفرط أدى إلى التشيىء المستمر فى حياة الأفراد، والمجتمعات لا سيما فى الدول الأكثر تطورًا منذ ثورة الاستهلاك فى العقود الأخيرة من القرن الماضى، إلا أن هيمنته على حياة الفرد والمجتمعات تزايدت على نحو تحققت معه مقولة جى ديبور فى كتابه مجتمع الاستعراض- ترجمة أحمد حسان ص ٨ الناشر شرقيات القاهرة ٢٠٠٠: «فى المجتمعات التى تسود فيها شروط الإنتاج الحديثة، تقدم الحياة نفسها بكاملها على أنها تراكم هائل من الاستعراضات كل ما كان يُعاش على نحو مباشر يتباعد متحولًا إلى تمثيل». وهو ما يشير إلى مقولة فويرباخ- فى مقدمة الطبعة الثانية من جوهر المسيحية التى أشار إليها جى ديبور فى «١» الانفصال المكتمل: «ولا شك أن عصرنا.. يفضل الصورة على الشىء، النسخة على الأصل، التمثيل على الواقع، المظهر على الوجود... وما هو مقدس بالنسبة له ليس سوى الوهم، أما ما هو مدنس فهو الحقيقة. وبالأحرى فإن ما هو مقدس يكبر فى عينيه بقدر ما تتناقض الحقيقة ويتزايد الوهم، بحيث إن أعلى درجات الوهم تصبح بالنسبة له أعلى درجات المقدس». هذا النقد الماركسى الكلاسيكى للرأسمالية الذى قام بتطويره ديبور فى ظل ثورة الطلبة ١٩٦٨ وظفه بعض الفلاسفة، والباحثين فى تطوير هذه المنظومة النقدية من الأفكار التى واكبت هذه المرحلة. فى ظل الرأسمالية النيوليبرالية الوحشية، والثورة الصناعية الرابعة بات الاستعراض والاستهلاك إحدى أبرز سمات الحياة فى عصرنا المتغير والمتحول فى ظل ما بعد الأيديولوجيا والسرديات الكبرى، وما بعد الحداثة، وما بعد بعدها، هناك الجموع المليارية وكتلها الضخمة وتفكك السرديات الدينية والأخلاقية الوصفية- ومذاهبها المختلفة- والتشكيك فى تاريخية حدوثها إلى آخر أشكال البحث التاريخى الدينى المتعارف! أدت الثورة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعى إلى تحويل هذه المواد التاريخية النقدية إلى منشورات وجيزة، وشعارية فى صياغاتها وبسيطة وسطحية ويتم تداولها ليراها المهتمون فى الكتل الدينية الكبرى والصغرى! كل الموروث بات موضوعًا للشك والأهم أن التغيير فى الاتجاهات والسلوك الدينى والاجتماعى والقيم يتم فى سلاسة ويسر وباتت السطحية والتفاهة سمتًا غلابًا على منشورات وتغريدات وفيديوهات وسائل التواصل. 

فى أشكال جديدة ومختلفة من الاستهلاك الرمزى والدينى والإلحادى، واللا أدرى جنبًا إلى جنب الاستهلاك المفرط، لم تعد هنا يقينيات وحقائق مطلقة- إلا قليل ولدى بعض المؤمنين بالأديان السماوية فى مصر والإقليم العربى- ولم تعد هناك إلا قليل، ونسبيًا الخطابات الناطقة باسم الحقيقة، والحقائق الكبرى.

- أدت ثورة وسائل التواصل الاجتماعى إلى لغة جديدة تتسم بالإيجاز الشديد فى المنشورات والتغريدات وفى لغة الصورة والفيديو الطلقة الوجيز جدًا، وهو ما ساعد على تنشيط عمليات التفكير السطحى والانطباعات السريعة العابرة، وانتهاك اللغة العربية فى مصر وعالمنا العربى، والخروج على قواعدها، ومفرداتها، لصالح اللغة العامية فى كل بلد، نظرًا لضعف مستويات تعليم اللغة العربية، وتدهورها حتى لدى المتعلمين فى المدارس والجامعات، حيث تلقى غالب الدروس باللغة العامية المهجنة ببعض الفصحى، من ناحية أخرى أدت اللغة الرقمية إلى انكشاف العقل السطحى للجموع الرقمية والعقلية المصرية، فى المنشورات والتعليقات عليها، وأيضًا إلى لغة السخرية والتنمر من بعضهم على البعض الآخر، وإلى شيوع الكذب، والمعلومات المغلوطة التى تكتب لأغراض الاعتراض السياسى على الوزراء ورؤسائهم وعلى القادة السياسيين فى مواجهة الإحصائيات المغلوطة التى تشير إلى إنجازات الحكومات فى مصر والمنطقة. عالم افتراضى تسوده الانطباعات السطحية السانحة فى الغالب الأعم. بعض من الجدية تسود فى بعض المواقع المعنية بالدرس الأكاديمى، ولكن بعضها تسوده منشورات كاذبة منسوبة إلى بعض الفلاسفة والمفكرين والأدباء لا صحة لها وغير مسندة مرجعيًا إلى مصدرها فى كتاباتهم، أو سردياتهم الروائية والقصصية أو أحاديثهم الصحفية والإعلامية، وتاريخها.. إلخ!

نحن إزاء ظاهرة موازية لسياسة ما بعد الحقيقة- وهو مفهوم يشير إلى الحالة أو الظروف التى تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرًا فى تشكيل الرأى العام من المشاعر الشخصية ونداءات العاطفة والمعتقدات الخاصة 

«post- truth and critical communication studies

Oxford Encyclopedia»

فى عام ٢٠١٦ وصف قاموس أكسفورد مصطلح ما بعد الحقيقة بأنه كلمة العام، وعرفه بأنه: «يتعلق أو يشير إلى الظروف التى تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرًا فى تشكيل الرأى العام من نداء العاطفة والمعتقدات الشخصية (انظر فى ذلك ar.m.wikipedia.org)

هذا المفهوم الذى سيطر على الانتخابات الأمريكية الرئاسية عام ٢٠١٦ واستفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى البريكست. كتبه المسرحى الأمريكى من أصول صربية فى مقال نُشر عام ١٩٩٢ ستيف تيسيتش فى ذا نيشون the nation فى أعقاب فضيحة ووتر جيبت ٧٢- ١٩٧٤ وتغطية فضيحة إيران كونتر ٨٥- ١٩٨٧ وحرب الخليج العربى ١٩٩٠- ١٩٩١

«ar.m.wikipedia.org»

سياسة ما بعد الحقيقة هى جزء من عوالم السياسة الفعلية فى المجتمعات الغربية الأكثر تقدمًا، وهى أيضًا جزء من السياسات العربية، ودول أخرى عديدة فى عالمنا، إلا أن ما بعد الحقيقة مع الواقع الرقمى توظفها مجموعات منظمة، وشركات وأجهزة استخباراتية وأمنية لتحاول التأثير على الاتجاهات السائدة على الحياة الرقمية من خلال الأخبار الكاذبة والمعلومات المغلوطة أو صناعة التريندات Trends الاتجاهات أو نشر الفضائح، إلا أن ذلك لا يعبر عن أوضاع، ولغة وخطابات مليارات الرقميين العاديين، ويمكن القول إن وصف ما يحدث بالغ الصعوبة، نظرًا لتغير الاتجاهات والظواهر على نحو بالغ السرعة والكثافة، ويمكن إطلاق وصف سياسة السطحية والأكاذيب على بعض مما يجرى كل ثانية ودقيقة وساعة.. إلخ داخل الحياة الرقمية الوطنية والقومية والكونية.

لم تعد المنشورات والتغريدات التى تتسم بالجدية- والصدق والمسئولية والدقة والتأنى- لها تأثير على الاتجاهات Trends وقلائل فى مصر مَن يتابعون خطاب الجدية، والعمق والمعلومات.نحن إزاء سياسة المشاعر الغاضبة، والهائجة والمعتقدات اليقينية والأحكام الجازمة، والتصورات الذاتية المحمولة على أنها حقائق مطلقة، بين المتدينين أو حتى لدى بعض العلمانيين.

سياسة الحقائق المطلقة- إذ جاز التعبير وساغ- هى مجموعة السرديات الوضعية والنقلية حول الدين والمذهب ومعها المرويات الشائعة حول مفهوم الألوهية تنزه وتعالى، وخلق الكون، والإنسان والطبيعة، والموت والحياة. وأيضًا الأنبياء، سرديات حياتهم وأصحابهم ومريديهم، والمرويات والعواطف الشعبية الموروثة والشائعة بفعل رجال الدين، وغيرهم التى تتسم الخطابات حول الأديان والمذاهب والمدارس اللاهوتية والفقهية، وصور الآخر الدينى الشائعة والحدود بين الإيمان بهذا الدين أو المذهب أو ذاك، وبين الأديان والمذاهب الأخرى. يبرز بعض حائزى الحقائق الدينية المطلقة على نحو بارز فى الحياة الرقمية المصرية، والعربية لدى الجموع الغفيرة الرقمية والفعلية، ويوظفون التدين الوضعى الشعبى السائد ومروياته وقواعده وأحكامه فى أداء وظائف التبشير الدينى، أو الردود الحاسمة والمطلقة على الآراء المعارضة لهم فى كل مناحى الحياة من السياسة إلى الزواج إلى الطلاق إلى السلوك الاجتماعى للآخرين، وإلى القيم الاجتماعية والأخلاقية وإلى السياسة والفن والعمل والجرائم من خلال تصورات التدين الوضعى باسم صحيح الدين. حائزو الحقائق المطلقة أو ملاكها تحولوا إلى محتسبين دينيين وسياسيين وأخلاقيين.. إلخ فى الحياة الافتراضية كما سوف نشير فى غير هذا الموضع من الكتاب.

سياسة الحقائق المطلقة تبدو ذاتية، لأن بعض الفاعلين الرقميين يقدمون رأيهم وتدينهم الوضعى وكأنه هو صحيح ومطلق الدين بقطع النظر عن مدى معرفتهم أو فهمهم أو تأويلهم الدينى. يشارك فى هذه الظاهرة الواسعة الانتشار رجال الدين الرسميون والسلفيون والجماعات الإسلامية السياسية، كل يقدم منشوراته وخطاباته وتغريداته وفيديوهاته وكأنه يملك حقائق الديانة والمذهب. هى ظاهرة تمدد فى المسيحية الأرثوذكسية والكاثوليكية والإنجيلية ويلاحظ بروز الخلافات الضارية بين أتباع بعض الأساقفة مع غيرهم، وأتباعهم حول من هو المعبر عن الإيمان الأرثوذكسى السليم، وكل يملك الحقائق المطلقة فى الديانة والمذهب والحياة وإزاء المذاهب المسيحية الأخرى، وإزاء الأديان الأخرى، ومرجع ذلك الفائض التاريخى للسيطرة الرمزية/ الدينية المذهبية من الإكليروس على أتباع المذهب الأرثوذكسى- شعب الكنيسة فى التعبير الشائع لديهم- فى ظل البطريرك الأنبا شنودة الثالث، وتوظيف عنف الجماعات الإسلامية وخطابات السلفيين تجاه الأقباط وثقافة الكراهية للآخر الدينى فى الوطن وإزاء الأديان الأخرى.

- لا تقتصر سياسة الحقائق المطلقة الرقمية على امتلاك الحقائق الدينية والمذهبية أيًا كانت فقط، وإنما تمتد إلى آراء انطباعية، وشائعة وشعبوية أو شعبية وكأنها المعيار فى الحكم على الأشياء، والآراء والسياسة والأفكار فى سطحية كاشفة عن انهيارات فى التعليم، والثقافة والوعى الاجتماعى والسياسى.. إلخ.

من الشيق ملاحظة أن الحياة الرقمية بها مواقع لبعض الكتب، والمراجع الهامة وأفلام السينما، والغناء والموسيقى الرفيعة، من السيمفونيات، إلى الأوبرا إلى المسرح إلى الفنون الجميلة، ولوحات كبار الفنانين لكن الدخول إلى هذه المواقع، وثقافات الشعوب الأخرى وتقاليدها، وعاداتها، وطقوسها ورموزها فى كل المجالات- إلا أن الدخول إلى هذه المواقع محدود على قلة القلة وفق اهتماماتها ببعض هذه المجالات الثقافية.

- يبدو أن سياسة السطحية والتفاهة وسياسة الحقائق المطلقة هى جزء من انكشاف مستويات الوعى الجمعى الاجتماعى والسياسى وحدود المعرفة والتعليم فى مصر والعالم العربى للجموع الفعلية والرقمية الغفيرة.

من الشيق ملاحظة أن بعضًا ممن يطلقون على أنفسهم مثقفين- وفق المفاهيم الشائعة وغير الدقيقة عن المثقف- هم جزء من سياسة الحقائق المطلقة وسياسة السطحية فى سجالاتهم الرقمية الوجيزة ناهيك عن كتاباتهم، فى ظل فوضى استخدام المفاهيم، والمصطلحات على نحو بيانى لا اصطلاحى دقيق.

- فى ظل هذه الظواهر الرقمية الشائعة، أين دور المثقف فى الحياة الرقمية، بعد حصاره فى الواقع الفعلى، وموت السياسة وحصار المجال العام وتراجع الدور الذى كانت تلعبه الصحف والمجلات الورقية؟

منذ نشأة مصطلح ودور المثقف فى قضية درايفوس ذائعة الصيت، نيطت به وظائف عديدة تمثلت فى نقد السلطات السياسية والدينية وفى تفكيك وتحليل وتقويض الأبنية التعليمية والثقافية والعادات والتقاليد والأساطير الشائعة والسائدة فى الحياة اليومية. هذا الدور فى مساءلة البداهات الشائعة، ونقدها كان من أهم أدوار المثقف فى عصر الحداثة ومن ثم كان سعيه إلى البحث عن مفهوم الحقيقة، وسلطة العقل الناقد بهدف إحداث ما كان يطلق عليه القطعية المعرفية- وفق باشلار، ألتوسير، وفوكو، وتومس كوهن- فى المصطلح الفلسفى. كان دور المثقف يحمل بعضًا من الأدوار فى نقد سياسات الطبقات السياسية الحاكمة والمعارضة، رافضًا نقد سياسات الحياة اليومية للمواطنين وطبقاتهم المتعددة، وخاصة فى ظل التحول إلى المجتمع الاستهلاكى ونقد التشيؤ الإنسانى. أدوار يمكن أن نطلق عليها نبوية وضعية أو بوصف المثقف النبى الوضعى للعصر الحديث، خاصة فى فرنسا، وبعض البلدان الأوروبية الأخرى- إيطاليا وبلجيكا- التى ساد فيها مصطلح المثقف، واعترف فيها بأدواره ومشروعه- على تعدده واختلافه بين المثقفين بعضهم بعضًا- هذا الدور الرسالى ساهم فى تطور العقل والوعى الغربى الفردى والجماعى، ومن ثم إنماء وتطوير الثقافة العالمة فى فرنسا، وأوروبا. من هنا كانت أدوار الفلاسفة الكبار، وعلماء الاجتماع وأساتذة فلسفة القانون فى النقد، والتفكيك والهدم وبناء الإنسان الفلسفة الجديدة أو تطوير بعض المفاهيم السائدة. من هنا كان عالم المثقف النقدى هو عالم اللغة والمصطلحات والمفاهيم والنقد والبرهان والتحليل والتركيب.

ظلت هذه الصور حول المثقف سائدة حتى فى ظل التحول إلى ما بعد الحداثة وثورتها على الحداثة من خلال تقويض السرديات الكبرى وعوالمها، وبعض يقينياتها، وسيطرة النسبيات فى عالم الأفكار، وإعادة النظر فى مفهوم الحقيقة وغيرها من المفاهيم التأسيسية للحداثة الغربية، مع استمرارية الانفصال بين الوضعى، والميتاوضعى. رغم هذه التغيرات الكبرى، ظل هناك دور للمثقف فى الحياة الفكرية وإنتاج الأفكار والمصطلحات إلا أن الأدوار السياسية، بوصفه ضمير الأمة، والمجتمع، أخذت التراجع نسبيًا، وخاصة فى ظل نهاية الأيديولوجيا، وتراجع دور الفكر اليسارى الماركسى نسبيًا، مع ظهور الأيديولوجيا الناعمة حول حقوق الإنسان، وتراجع الحدود الأيديولوجية، بين أحزاب يسار الوسط ويمين الوسط فى فرنسا والتراجع النسبى لدور الحزب الشيوعى الإيطالى وأطروحاته. حدث نكوص عن مشاركة المثقفين الكبار فى بعض التظاهرات، والأحداث السياسية الكبرى على العكس مما كان سائدًا كما فى أحداث ثورة الطلاب فى فرنسا ١٩٦٨ حول جامعة السوربون وأثناء الاحتجاج من أجل الخروج من الجزائر، ونقد الكولونيالية الفرنسية.

فى عصر ما بعد الحداثة، تركز دور المثقف على الكتابة وإنتاج الأفكار وإعادة نقض الأفكار الحداثية، وبرز ذلك فى الإنتاج الفلسفى والسوسيولوجى، وفى الفنون الجميلة.. إلخ.

فى ظل التحول ما بعد الحديث، بدأت حالة السيولة والاستهلاك المفرط، ومعه التشيؤ الإنسانى وعبادة السلع والخدمات، واللايقين، وطغيان عصر الصورة المرئية من خلال التلفزات والفضاءات والتزامن بين زمن الحدث وزمن الصورة على نحو ما تم من خلال الفضائيات فى انقلاب الشيوعيين المحافظين الذين عارضوا مشروع ميخائيل جورباتشوف ١٩ أغسطس ١٩٩١ بقيادة نائب الرئيس غينادى ياناييف، حيث قامت بعض الفضائيات الأمريكية CNN بنقل الأحداث أثناء وقوعها وكانت نقطة تحول حول سلطة الصور التلفازية المرئية المباشرة من مواقع الأحداث التى تحدث فى أى بقعة من بقاع الحياة الكونية. لا شك أن عصر الفضائيات أدى إلى بروز أدوار الخبراء والباحثين والمعلقين التلفازيين فى تخصصاتهم فى تحليل ومناقشة بعض القضايا والسياسات والأزمات والوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفنية والسينمائية.. إلخ! بات الخبير والباحث فى الصورة المرئية التلفازية وفى حدود لغة الصورة، والإعلام المرئى، الحديث/ الخطاب السريع والمكثف والبسيط الذى لا يناقش الموضوع فى عمق وتخصص بالنظر إلى مخاطبة المتلقى فى سلاسة وربما بعض من الإثارة حتى لا يتحول المشاهد إلى قناة، أو قنوات تلفازية أخرى منافسة!

أدت سلطة المرئيات التلفازية إلى إشاعة بعض من السطحية والبساطة والتشويق فى خطاب الخبير والباحث والمعلق التلفازى وفى ظل تفضيلات معدى البرامج فى اختيارهم للخبراء والباحثين والمعلقين والتحيز فى اختيارهم لبعضهم/ هن عن الآخرين وخاصة من الصحفيين وكتاب الصحف الورقية، وبعض أساتذة الجامعات وخبراء مراكز البحث السياسى والاقتصادى والاجتماعى والميل إلى بعض المشاهير من قادة الأحزاب السياسية فى ظل بعض من الاستعراض وتوظيف مفهوم النجومية من أجل التأثير على المشاهد وذلك بحسب اتجاه كل قناة من القنوات التلفازية والفضائيات.

فى ظل هذه الأجواء التى أعقبت انهيار الإمبراطورية السوفييتية وتفككها بدأ خفوت صوت المثقف فى المجال العام، وهيمنة عصر وسلطة الصورة المرئية فى ظل تراجع مغامرات التجريب فى السينما، والمسرح، والفنون المختلفة والفلسفة والاجتماع فى عصر الحداثة، وما بعدها وما بقى منها قليل.

أثرت هذه التحولات على دور المثقف الوظيفى لصالح مقدم البرامج المرئية، والخبير، والباحث والمعلق ونجوم السينما وبعض السياسيين وخاصة بعد دخول رموز الكاريزما فى السياسة العالمية وفى دول أوروبا ودول جنوب العالم التابعة للرأسماليات الغربية فى المركز وسياساتها وأجهزتها وقادتها السياسيين.

أثرت وسائل الإعلام المرئية فى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وكندا على دور المثقف لصالح الخبراء، والأخطر على خطابهم، وميله إلى الإثارة الخطابية من خلال الجمع بين المتناقضين فى المواقف والآراء السياسية وإلى دور مقدم البرامج- ومعه معدو البرامج- فى تأجيج الحوار، وتحويله فى بعض الأحيان إلى سجال بين خصمين، فى حلبة للملاكمة اللفظية والكلامية والسياسية لكى تتحقق من خلال هذا النمط من المكالمة سياسة الإثارة، وتشويق المشاهد للاستمرار فى المشاهدة. هذا النمط من الملاكمة اللفظية والكلامية بين المتساجلين يؤدى إلى المزيد من التبسيط لجذب المشاهد بعد يوم عمل شاق ومرهق أو فى عطلة نهاية الأسبوع، ومن ثم يبدو التبسيط والتشويق والسجال جاذبًا لعيونه أمام شاشات قنوات التلفزة. فى الولايات المتحدة لعبت الصورة الفوتوغرافية دورها فى صناعة عصر النجوم ومعها التلفاز، ودور العلاقات العامة فى عملية صناعة النجم/ النجمة فى السينما، والمسرح والاقتصاد والسياسة!

هذا العصر لا تزال بعض بقاياه إلا أن متوسط استهلاك النجم بدا زمنيًا قصيرًا جدًا يعكس عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضى. التقليد الأمريكى يعرف مفهوم الخبير المتخصص فى محاورات الصحف، وتحقيقاتها أو فى التلفزات، والمثقف هنا يبدو غائبًا، أو شاحبًا لصالح الخبير والباحث، بعكس التقليد التاريخى الفرنسى وبعض البلدان الأوروبية، منذ قضية درايفوس الشهيرة. ارتباط الشهرة والذيوع الإعلامى باستهلاك الصورة والكلمة والعلاقات العامة أدى إلى نمط من الشهرة الزائفة المؤسس على الأحداث الزائفة، وفق الكاتب الأمريكى دانيال بورستين، فى كتابه «الصورة والأحداث الزائفة»، من أجل الرواج الصحفى. لا شك أن هذه الظاهرة واسعة الانتشار تحولت مع الشركات الضخمة، وأنماط إنتاجها الكبيرة، وتنافسها إلى مجال الصحافة، ثم إلى التلفزات ثم إلى القنوات الفضائية ونمط الاستهلاك المرئى السريع، فى ظل هذه البيئة الإعلامية والصحفية المتغيرة بسرعة كثيفة التغير والتحول على نحو أدى إلى التأثير على دور المثقف فى التقليد الأوروبى، وأدى إلى تراجعه النسبى.

فى ظل الثورة الرقمية وتغيراتها السريعة أثرت كثيرًا على المثقف وحضوره فى المجال العام، والإعلام وخاصة مع الأجيال الرقمية الشابة والجموع الرقمية الغفيرة وعالم المنشورات والتغريدات والصور والفيديوهات الطلقة السريعة والخاطفة. فى ظل هذه البيئة الرقمية المتغيرة تغيرت بعض الذهنيات الفاعلة بالمليارات على وسائل التواصل الاجتماعى، ولم تعد الصحف الورقية أو التلفزات والقنوات الفضائية هى المسيطرة على العيون والعقول، وصناعة الاتجاهات. باتت وسائل التواصل، والمجتمع الكونى الرقمى يشكلان عالمًا ومجتمعًا كونيًا موازيًا- يضم مجتمعات رقمية وطنية وإقليمية داخله- للمجتمع الكونى الفعلى ومؤثرًا فى مساراته. من هنا غاب المثقف نسبيًا وخاصة مع سطوة المجتمع الرقمى فى استهلاك منشوراته وتغريداته وفيديوهاته القصيرة جدًا، والمشاركة السريعة فى رد الفعل، ما على ما يجرى داخله. والأخطر أن الأخبار تتوالى على نحو سريع فى أثناء وقوعها، أو أحداثها! هذا النمط من الاستهلاك الرقمى السريع، فائق السرعة يتم فى المنزل والمصاعد الكهربائية والشارع وعلى المقهى وفى حانات الشراب، وفى العربات الخاصة والمركبات العامة والقطارات.. إلخ!

كل ذلك أثر على نمط الاستهلاك السابق للصحف والمجلات الورقية والقراءات للكتب، والروايات والفلسفة والسوسيولوجيا التى أصبحت أسيرة الدوائر الأكاديمية وقلة من القراء المهتمين، وذلك تحت أثر التحولات الرقمية وبعض المواقع المتخصصة فى الفلسفة والاجتماع والقانون، والفنون الرفيعة، باتت تقتصر على المهتمين فقط.

أثر العالم الرقمى ومواقع الاتصال الاجتماعى على بعض مشاركات المثقف، والفيلسوف وعالم الاجتماع والقانون وباتت مشاركات بعضهم جزءًا من المنشورات والتغريدات والفيديو إلا أن تأثيرهم لم يعد هو ذات التأثير والأدوار الوظيفية السابقة فى زمن المثقف والفيلسوف. نستطيع القول فى تحفظ إننا نعيش فى عصر موت المثقف، ونهاية أدواره فى المجتمعات الغربية، وفائقة التطور.

ستتأكد هذه النهاية، مع التحولات الجديدة للثورة الصناعية الرابعة وعالم الأناسة الروبوتية، والأدوار التى سيلعبها الروبوت فى الفنون المختلفة، وفى ظل ثقافة السرعة الفائقة والاستهلاك السريع للمواد المطروحة فى الحياة الرقمية، كانت نهاية المثقف فى عصر الجموع المليارية الرقمية الغفيرة.