رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بين نجيب محفوظ ويوسف إدريس

أتاحت لى المصادفة أن أعيش جزءًا من حياتى فى زمن نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وأن ألتقى مرارًا كليهما، فى موضع كاتب شاب يتطلع إلى الأساتذة وليس موضع الصديق، حينذاك، فى الستينيات، أدهشتنى «ثلاثية» محفوظ، ولم أكن قد قرأت قبلها فى الأدب العربى صرحًا أدبيًا بهذا العلو، وحدثت أخى جمال الغيطانى فقال لى: «نعم. هو روائى عظيم. ولا بد أن نعرض عليه قصصنا القصيرة»! وكان جمال نشطًا فى بناء العلاقات الاجتماعية، واقترح علىّ قائلًا: «إنه يمشى كل يوم من منزله إلى مبنى ماسبيرو. فى الثامنة صباحًا يكون على كوبرى الجامعة. نذهب إليه ونعطيه القصص»!

قلت له: «يا جمال.. هذا أشبه بالكمين! لماذا لا ندع الرجل فى حاله؟». لكنه أصر. وبالفعل توجهنا ونحن بعد فى السادسة أو السابعة عشرة من عمرنا إلى الأستاذ العظيم، فاستوقفناه، وناولناه قصتين، وفى صباح اليوم التالى لبدنا له على الكوبرى، فعاملنا بلطف ومحبة وأبدى بعض الملاحظات الطفيفة فاعتبرنا منذ ذلك الحين أننا كاتبان كبيران حتى إننا حظينا بتقدير نجيب محفوظ! ومضينا نختال بين مقاهى المثقفين بإطراء الكاتب العظيم لأعمالنا الساذجة! 

فيما بعد تكلمت مع يحيى الطاهر عبدالله فقال لى إن الأستاذ نجيب يلتقى كل يوم جمعة بالناس فى كازينو «صفية حلمى» بميدان الأوبرا.

ظللت أتردد على ذلك اللقاء بانتظام نحو عامين أنصت ولا أتكلم، مستغرقًا فى ملاحظة شخصية نجيب محفوظ. كان دمثًا، متواضعًا بصدق الإنسان الذى يدرك أن دور الفرد فى التاريخ محدود أيًا كانت مواهبه. وكان معظم الحاضرين من الشباب يتطلع إليه بلهفة إلى التوجيه، لكن الأستاذ نجيب لم يكن يشير علينا بشىء، مكتفيًا بالإنصات إلينا، فإذا تحدث تنهمر علينا أسئلته التى ربما تعوض معرفته بالواقع والبشر التى تحد منها عزلته لعكوفه على الأدب. وربما كان يسألنا لأن الحياة عنده كلها كانت «مادة» للأدب، ونحن جزء من تلك المادة، أما يوسف إدريس فقد كان الأدب عنده مادة للحياة، إدريس كان يرى أن الأدب جزء من الحياة، أما محفوظ فقد رأى أن الحياة جزء من الأدب. وهما موقفان مختلفان تمامًا.

وقد التقيت إدريس العديد من المرات، أذكر منها مرة فى مبنى دار الأدباء، وكنا حوله حلقة شباب، أنا ويحيى الطاهر عبدالله، ومحمد روميش وآخرون. واقترح علينا بعينيه المتوهجتين أن يبدأ هو بارتجال مطلع قصة قصيرة، ثم أقوم أنا أحمد بمواصلة ما بدأه، ثم يتناول منى روميش الخيط ويستكمل العمل. وبذلك كان إدريس يخترع أول ورشة أدبية فى وقت لم يكن أحد قد سمع فيه بكلمة ورشة ولا كان ذلك المفهوم مطروحًا أصلًا. كما قام إدريس بدأب بتقديم كل أبناء جيل الستينيات، وعمل على نشر أعمالهم فى مجلة الكاتب التى ترأس تحريرها أحمد عباس صالح، وبينما تجنب محفوظ الاشتباك بأى قضايا اجتماعية، إلا إن كان ذلك رواية، فقد خاض إدريس المعارك الفكرية والسياسية بلا توقف، ومن أشهرها معركته ضد الشيخ الشعراوى، ووصفه إياه بأنه «راسبوتين» العصر الذى يخدع البسطاء بقدرته على التمثيل. وقد ترك الأديبان الكبيران إرثًا أدبيًا عظيمًا، كل بطريقته. سافرت بعد ذلك إلى الخارج وعدت بعد زمن طويل، فذهبت للقاء نجيب محفوظ لأقدم له كتابى: «نجيب محفوظ فى مرايا الاستشراق السوفيتى»، فوجدت الكاتب العظيم على طريقته القديمة يسأل ويستفسر ولا يصرح بشىء، ثم التقيت يوسف إدريس، وقد ترك الزمن بصمته على ملامحه، ورأيت من جديد وهج الروح النارية الذى لازم نظرته إلى النهاية.