رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مسلسل 1899.. الحقائق والظلال فى كهف أفلاطون «3-3»

نحكى أمثولة الكهف للفيلسوف اليونانى أفلاطون عن أناس مقيدين منذ صغرهم فى كهف مظلم، بحيث لا يستطيعون الالتفات إلى الوراء أو الصعود خارج الكهف. فى الكهف هناك ما يشبه النافذة التى يطل منها نور ينبعث من شمس مقابلة للكهف. بين النور ونافذة الكهف هناك طريق يمر منه أناس يحملون أشياء عديدة، وحينما تضرب أشعة النور فى تلك الأشياء تنعكس ظلالها على الجدار الداخلى للكهف. هكذا لا يرى السجناء داخل الكهف من الأشياء الموجودة خارج الكهف إلا ظلالها. وقد حدث أن تم تخليص أحدهم من قيوده، بحيث تمكن من الصعود خارج الكهف، وقد أدرك أن الأشياء خارج الكهف تختلف عن الأشياء بداخله، بحيث تعتبر هذه الأخيرة مجرد ظلال. وبعد أن يدرك هذه الحقيقة يقرر العودة إلى الناس داخل الكهف لإخبارهم بحقيقة ما شاهده، وتنبيههم إلى حالة الأوهام التى يعيشونها، لكنهم لم يصدقوه بل حاولوا قتله.

يتردد صدى أسطورة الكهف فى عدد كبير من المؤلفات العالمية، ومنها العربية والإسلامية، فنجد آثارها عند الفلاسفة المسلمين، مثل الفارابى فى المدينة الفاضلة، وابن باجة فى الإنسان المتوحد، وابن طفيل فى حى بن يقظان، وقد مثل هؤلاء الفلاسفة فى أعمالهم الخارجين من الكهف الذين يتعرضون للتنوير، كما مثلوا سجناء الكهف من أهالى المدن الجاهلة أو ممن نسوا العالم الروحانى وانغمسوا فى الأوهام.

وورد تأثيرها بشكل أكبر لدى إخوان الصفا، فيحكون أن الملك ووزيره رأيا زوجين يعيشان فى مكان صغير أشبه بمغارة فى مزبلة، وهما مشوّهان فى الخلقة، ومع ذلك يثنى كل منهما على زوجه ولا يلتفتان إلى قبحهما وتشوّههما وبؤسهما، فهى تثنى عليه وتصفه بالجمال والحسن كأنه يوسف الصديق وتسميه ملك الملوك، وهو يناديها بـ«يا سيدة النساء»، فيستنكر الملك ذلك منهما، فينبهه الوزير بقوله: أخاف أيها الملك أن نكون فيما نحن فيه من عز سلطاننا ونعيم ملكنا ولذيذ شهواتنا وسرورنا بأحوالنا وفرحنا بما حولنا مغرورين كغرور هذين المسكينين بما هما فيه، ونحن محقرون وجميع أحوالنا فى أعين قوم آخرين كاحتقار هذين المسكينين عن أحوالنا. فالوزير يخشى أن يكون هو والملك أكثر انخداعًا منهما، فى نموذج قدمه إخوان الصفا كدليل على انخداع الإنسان بالعالم الحسى، وغفلته عن العالم الروحانى. 

كما روى إخوان الصفا عن الطبيب الحكيم الذى دخل مدينة، فوجد عامة أهلها مرضى، لكنهم لا يشعرون بعللهم وأمراضهم، وخشى إن واجههم بحقيقة مرضهم أن ينفروا منه ويرفضوا علاجهم، فمن شدة شفقته بهم، احتال عليهم حتى تهيأ له ذلك، حتى شفوا من عللهم. فهم بذلك يرمزون إلى المنورين الذين يطلعون على الحقائق الأخرى ويعرفون ما لا يعرفه سكان الكهف فيتحايل عليهم حتى يصل بهم إلى ما يفيدهم وينفعهم، وهو بذلك يؤدى دوره التنويرى على خير وجه، فلا يتصادم معهم، ولكن يأخذهم بالحيلة حتى يعرفهم ما جهلوا.

أما السهروردى، فيحكى فى رسالته عن طاووس كان فى حديقة أحد الملوك، وكان يستمتع بما فى الحديقة من رياحين وخضرة ومياه مع الطواويس والطيور الأخرى، ثم يأمر الملك بأن يخيط جلده، بحيث تحجب ألوان ريشه وتصبح غير مرئية، ووضعت عليه سلة ليس فيها سوى فتحة صغيرة بحجم حبة الدخن، وبمرور الوقت نسى الطاووس نفسه والمملكة والحديقة والطواويس الأخرى، وأيقن أنه ليس هناك عالم أرحب من الأرض الواقعة تحت السلة، وكانت تأتيه فى بعض الأحيان روائح الأزهار والورد، ويسمع أصوات الطواويس فى الحديقة من خلال الفتحة الموجودة فى السلة، فيضطرب من الداخل ويشعر برغبة فى الطيران، لكنه لا يرى سوى جلده البالى، وعالم ما تحت قاعدة السلة، وطعامه الذى لا يتجاوز حبة الدخن، فقد نسى حياته الأولى، وعندما أمر الملك بإطلاق سراحه، أدرك وطنه وشعر بالندم والأسف على ما فاته. 

كما تأثر بها ابن سينا فى قصيدته العينية:

هبطت إليك من المحل الأرفع

ورقاء ذات تعزز وتمنّع

أنفت وما أنست فلمّا واصلت

ألفت مجاورة الخراب البلقع

كل هذه الأمثلة تدل على تعدد مصادر التأثير والتأثر بين الحضارات المختلفة، وعلى أن أسطورة كهف أفلاطون قد حالفها الخلود لما لها من قدرة على شرح طبيعة النفس البشرية فى حال ابتعادها عن مصادر قوتها عند ركونها للأوهام والتنوير الذى يحدث لها بقدرتها على مغادرة كهف العادة والمعتاد وما نظنه حقيقة وهو ظلال.

نيلو فينجادا