رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جابرييل جارسيا ماركيز الصحفى

محبتى للروائى الكولومبى الكبير جابرييل جارسيا ماركيز «١٩٢٧- ٢٠١٤» ليس سببها فقط موهبته العظيمة كواحد من أهم كتّاب الحكايات فى القرن العشرين، وربما فى تاريخ الكتابة، أو بسبب مواقفه السياسية المناهضة لسياسات الغرب الاستعمارية، ولكن بسبب اعتزازه بمهنة الصحافة وعمله بها، قبل رحيله كان حزينًا عليها، لأن الصحفيين لم يعد باستطاعتهم الكتابة «كل ما يفعلونه هو الاستشهاد بالآخرين»، ولأنهم لا يدركون أن الواقع ليس ما حدث بالفعل، «ولكنه كل ما يصلح للحكى»، كان يضع المهنة فى مقام رفيع، ويرى أن التحقيق الصحفى هو أعظم ما فيها، وأن الحوار الصحفى يشبه «مزهرية الجدة» التى تساوى ثروة طائلة، ولكن لا أحد يعرف أين يضعها. 

فى لقاء له مع «باريس ريفيو» مطلع الثمانينيات من القرن الماضى سأله المحرر: كيف تشعر حيال استخدامى مسجل الصوت؟ أجابه: المشكلة هى أنك بمجرد أن تعلم أن المقابلة مسجلة فإن أسلوبك يتغير، ففى حالتى مثلًا أتخذ موقفًا دفاعيًا على الفور، كصحفى، أشعر بأننا ما زلنا لم نتعلم بعد كيفية استخدام مسجل الصوت لإجراء مقابلة، الطريقة المُثلى لإجراء المقابلات، كما أعتقد، هى الخوض فى محادثة طويلة دون أن يدوّن الصحفى شيئًا، ثم بعد ذلك، عليه أن يتذكر المحادثة وأن يكتب ما يتذكر من انطباعات ومشاعر حولها، وليس بالضرورة استخدام ذات الكلمات التى قيلت أثناء المقابلة، طريقة أخرى مفيدة هى تدوين الملاحظات ثم تفسيرها لاحقًا مع الحرص على عدم الخروج عن مقصد الشخص الذى تقابله، الأمر المزعج فى تسجيل كل شىء هو أن مسجل الصوت ليس مخلصًا للشخص الذى تجرى مقابلته، لأنه يسجل ويتذكر كل شىء، حتى الأوقات التى تحرج فيها نفسك. لذلك، عند وجود شريط مسجل فإن تركيزى عالٍ وانتباهى منصب على كونى فى مقابلة، وعند غياب الشريط المسجل فإنى أتحدث بأريحية تامة.. وحين اعتذر له المحرر، قال له: إن الهدف مما قلته للتو هو وضعك فى موقف دفاعى مثلى. 

ماركيز الحائز على جائزة نوبل سنة ١٩٨٢ عن روايته العظيمة «مائة عام من العزلة» لم يتوقف عن الكتابة للصحافة قبل أن يمنعه مرض ألزهايمر فى أيامه الأخيرة، لأنه كان يؤمن بأنها نوع أدبى، أداء للواقع، كالرواية والمسرح، وقال فى مقابلة مع صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» سنة ١٩٩٠: «عندما أكتب صحافة، بعض الناس يعتقدون أننى أكتب أدبًا»، وأضاف: «وأنا صارم جدًا عندما أكتب صحافة، وأنتبه دومًا للحقيقة، إلا أن لدىّ طريقة جد أدبية فى اختيار الحقيقة ورؤيتها، أستخدم نفس طريقة الملاحظة فى الصحافة والأدب، بفضل الأدب أرى أشياءً لا يراها الآخرون. ومن ناحية أخرى، فقد ساعدتنى الصحافة فى الأدب كونها منحتنى احتكاكًا دائمًا بالواقع». 

ماركيز كان يكتب ٢٥٠ كلمة يوميًا وينصح الشباب: «إذا كتبت بضع مئات من الكلمات كل يوم طوال حياتك، فستكتب كما فعل بلزاك»، كل أفكاره، كما يقول، تأتى من الحياة، من خبراته، ومن ملاحظاته، إلا أن مصدر إلهامه يظل لغزًا، عندما يجلس الشخص للكتابة فهو يبدأ بشكل أوتوماتيكى نوعًا ما، تأتى لحظة تتماهى فيها مع الموضوع ويحملك بعيدًا وتبدأ الكلمات فى الانسياب وحدها، هذا هو اللغز الذى لا أفهمه، هذا ما يسميه الرومانسيون بالإلهام، فى نهاية حواره مع «لوس أنجلوس تايمز» قال لمحررى الصحيفة: إذا نظرت إلى المحصلة، فربما مع حلول القرن القادم (القرن الذى نعيش فيه الآن) سيكون هناك أشخاص أحياء أكثر من الأموات، الحياة قوة، بعكس الموت، أقول ما قاله فوكنر مرة: «ربما تسير الأمور بشكل سيئ فى كل شىء، إلا أن الكائن الحى عصى على التدمير، الكائن الحى كفرد فان، لكنه كجنس خالد... ما الذى نستطيع جميعنا أن نفعل؟ الثورة العظمى ستقع عندما يقوم كل شخص بعمله جيدًا».