رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ماذا تراقب الكاميرات فى «أتيليه القاهرة»؟

قبل أيام اصطحبنى الصديق الكاتب ناجى الشناوى فى زيارة إلى «أتيليه القاهرة»، المكان الذى لم أدخله منذ سنوات طويلة لأسباب تتعلق بالانشغال بأمور خاصة لا أكثر ولا أقل.. قبلها كنت قد سمعت كلامًا عن تركيب إدارة «الأتيليه» كاميرات لمراقبة الحديقة الصغيرة، وصالة المدخل الرئيسى للمكان، وما قابل ذلك القرار من رفض وامتعاض من جميع رواد المكان.

و«الأتيليه» لمن لا يعرف، هو مقر جمعية أدباء وفنانى القاهرة، وهو عبارة عن مبنى صغير بالقرب من ميدان طلعت حرب بوسط القاهرة، ولا يشتمل على أكثر من أربع صالات لمعارض الفن التشكيلى، وحديقة مخصصة للندوات والاحتفالات أو العروض الموسيقية أو السينمائية، وأخرى يستخدمها رواد المكان من أدباء وفنانين كمكان للقاءات الخاصة، وتناول المشروبات التى لا تزيد عادة عن الشاى والقهوة وبعض العصائر وما إلى ذلك، فيما تتوزع بعض المقاعد فى صالة المدخل، يستخدمها البعض للكتابة أحيانًا، ولجلسات العمل والرغى والمناقشات العامة والخاصة أحيانًا أخرى.

ولمن لا يعرفون أيضًا، فإن العدد الرسمى لأعضاء الجمعية لا يزيد على الألفى عضو، لا يتردد على المكان سوى ما يقل عن عشرة بالمائة من هذا العدد، وبشكل غير منتظم، وربما يمر اليوم دون أن يدخله أكثر من عشرين شخصًا على أكبر تقدير، وكلهم من الأعضاء، أى من الكتاب الذين صدرت لهم أعمال مطبوعة، أو الفنانين المشهود لهم فى الوسط التشكيلى، بحسب شروط العضوية بالجمعية التى يقترب تاريخها من المائة عام، ما يجعل من مسألة تركيب كاميرات لمراقبة الموائد والجلسات، أمرًا مريبًا، مدهشًا وغريبًا، ويحتاج إلى تفسير واضح ومقبول من أعضاء مجلس الإدارة لأعضاء الجمعية العمومية، أو إلى مناقشة مستفيضة مع المترددين المنتظمين على المكان على أقل تقدير.

وعندما سألت الصديق الكاتب الكبير ناجى الشناوى عن هذا الأمر المريب، قال لى إن تلك الكاميرات تم شراؤها فى الأصل منذ عدة سنوات لكى توضع عند البوابة، وقاعات المعارض التشكيلية، كجزء من تأمين اللوحات والمعروضات، وهو أمر منطقى ومقبول ولا غبار عليه، لكن مجلس الإدارة الحالى قرر دون مقدمات تركيبها فى الحديقة والصالون، دون عرض على الجمعية العمومية، أو حتى مناقشة الأمر مع الأعضاء المنتظمين فى التردد على المكان، مما أثار حفيظة البعض، وتساؤلات الجميع عما يريد المجلس مراقبته، وعلاقة ذلك بالغرض الذى تم شراء الكاميرات من أجله.

سألت عن سابقة تعرض أحد الرواد للسرقة مثلًا، أو التحرش بإحدى المترددات من الكاتبات والفنانات، فكانت الإجابة التى توقعتها بالفعل، وهى أن ذلك لم يحدث مطلقًا، وليس من المتوقع حدوثه، لأسباب تتعلق بطبيعة المكان، وطبيعة أعضائه، وعدد المترددين الذين تحولوا بحكم العدد المحدود وكثرة التواجد، إلى أصدقاء، تحكم جلساتهم العِشرة، وخصوصية المناقشات والحوارات التى لا تخرج عن حدود المستجدات فى الحياة الثقافية أو الفنية، وربما تتطرق إلى قراءات للنصوص الأدبية الجديدة لأحدهم، وما شابه من حوارات متوقعة بين أديب وفنان، ما يجعل من تركيب تلك الكاميرات المريبة فى غير موضعها ما يستعصى على الفهم، والحقيقة أننى لا أرى أنه يحتاج إلى تفسير من أحد.. فقط يحتاج إلى قرار بالإلغاء وتوجيه الكاميرات إلى ما جاءت له، وإن لم يكن، فليكن تغيير ذلك المجلس، بجميع أعضائه، وانتخاب مجلس جديد يدرك أهمية الخصوصية للكاتب والفنان، وخطورة أن يجلس كاتب أو فنان وهو يعرف أن هناك كاميرات مسلطة عليه، تحصى عليه همساته، وتحركاته، وكأنه مشتبه به إلى أن يثبت العكس.

ربما يكون الأمر مقبولًا فى المقاهى، أو النوادى والجمعيات العامة، أو غيرها من الأماكن المفتوحة للجميع، التى يختلط فيها الجميع بالجميع، وبأعداد كبيرة، لكن أن يحدث ذلك فى مكان لا يدخله غير عدد محدود جدًا، ومن نوعية خاصة جدًا، ولا يدخله سوى الشعراء والفنانين والأدباء، فالأمر لا يحتمل أكثر من احتمالين لا ثالث لهما.. أولهما أن تكون هذه توجيهات أو تعليمات أمنية، وهو أمر مستبعد تمام الاستبعاد، لأسباب تتعلق بطبيعة المكان الثقافية البحتة، وما يدور به من حوارات ومناقشات لا تخرج عن الحدود التى ذكرتها، بل إنه ربما لا يكون مطلوبًا مراقبة المدخل، نظرًا لطبيعة الشارع الذى يقع به المقر، وهو شارع صغير سد، لا يزيد طوله على المائتى متر، تتصدره مكتبة وصالة عرض لإحدى شركات القطاع العام، ويمكن لكاميرا واحدة أن ترصد جميع التحركات فيه.

الاحتمال الثانى هو أن يتحول المكان إلى «عزبة خاصة» لرئيس مجلس الإدارة، يتحكم فيها وفق ما يعن له من تصورات وأهواء لا يعلم بها أحد، ولا يناقشها مع أحد، فلا يدخلها إلا من يحب ويرضى، أو لرغبة غير معلنة فى أن يتحول المقر إلى مكان جاذب للربح، طارد للأدباء والفنانين، وتمهيدًا لتحويله إلى مقهى مفتوح لكل عابر، خصوصًا مع ظهور بوادر تشير إلى ذلك، ومنها ما رأيته بأم عينى من فتح الباب الجانبى لحديقة الندوات والعروض الفنية، ووضع طاولة للمشروبات الساخنة بجوار الباب لبيعها للمارة والعابرين فى صورة غير مفهومة على الإطلاق، وعلق عليها صديقى ناجى الشناوى ساخرًا بأنها «جزء من الدور الاجتماعى لأتيليه القاهرة»!!

أيها السادة.. رفقًا بتاريخ مكان لا تعلمون عن قدره ومكانته شيئًا، فلا يليق بأتيليه القاهرة، أهم بوابات التعرف على المجتمع الثقافى فى مصر والالتقاء بنجومه، أن يتحول إلى مكان لبيع القهوة والشاى للعابرين، ولا يليق به أن يتحول إلى مكان طارد لنخبته المثقفة، ولا إلى ساحة للصراعات الصغيرة.