رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بلال.. المؤذن

بلال بن رباح هو «سيد المستضعفين» ممن آمنوا بالنبى، صلى الله عليه وسلم.. عاش طفولته وشبابه كإحدى الأيقونات المعبرة عن حملة أبرهة على البيت الحرام التى سرعان ما انتهت وطوتها الذاكرة، لكن ظل «بلال» ترجمة لذكراها، وشاهدًا على تجربة إنسانية فريدة فى رقيها. «بلال» ابن أسيرة حبشية- يرجح طه حسين فى كتابه «الوعد الحق» أنها كانت ابنة أخت أبرهة- سقطت فى يد رجل من خثعم، بعد أن خرجت القبيلة على جيش أبرهة المنسحب من مكة بعد هجوم الطير الأبابيل عليه، وتمكن من أسرها، وساقها هدية إلى خلف الجمحى أحد أعيان مكة.

منذ اللحظة الأولى التى أهديت فيها «حمامة» لخلف انتوى فى نفسه أن يستذلها وأن يجعل منها مادة لانتقامه من خالها «أبرهة»، صاحب الفيل الذى أراد جنوده وأهله من الأحباش هدم البيت، فساقها إلى غلام يعمل لديه من مولدى الأحباش، وهو «رباح» وكانت له جذور زنجية، وطلب منه أن يذيقها من صنوف الهوان ما يبعثر كرامتها وكرامة العرق الذى أنبتها، لكن كانت للقدر إرادة أخرى، فحين رآها رباح وقعت فى قلبه، فاقترح على سيده طريقة فريدة لإذلالها كأميرة حبشية عظيمة القيمة والمقام بتزويجها منه وهو العبد الزنجى الذى لم يكن يحلم حتى بأن يكون خادمًا لها فى قصرها بالحبشة، وكان أن تزوجها.

حملت حمامة من رباح، ورغم حبه لها وفرحه بالوافد الجديد، إلا أنه اهتم واغتم لأنه لم يرد لابنه القادم أن يصير عبدًا من عبيد خلف أو ولده أمية، لكن كلمة الله تمت، وطرق بلال بن رباح أبواب الحياة، لتموت بعد ولادته أمه، ثم يلحق بها أبوه، وتنتهى به الحال إلى عبد من عبيد أمية بن خلف.

كان صدر «بلال» يضيق بإحساسه بالعبودية، وربما داهمته لحظات شعر فيها بالأسى والحزن على الحال التى هو عليها، واسترجع ما كان يسمعه عن أمه أنها كانت أميرة، وابنة أخت «أبرهة» الخطير الذى يذكره العرب جيدًا، ولم يكن يعلم فى هذه اللحظات أن القدر يخبئ له ما هو خير وأبقى. اندفع «بلال» إلى الإيمان بمحمد، صلى الله عليه وسلم، لما سمع برسالته التى تساوى بين البشر جميعًا، وتحمّل من صنوف القهر والتعذيب ما لا يتحمله بشر على يد سيده «أمية» وهو ثابت الإيمان مطمئن القلب.

كان أمية بن خلف إذا حميت شمس الصحراء وقت الظهيرة يدفع ببلال فيلقيه على وجهه وظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتلقى على صدره، ويقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فكان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب وهو يقول: أحد أحد، فيقول: أحد أحد والله يا بلال. فرآه أبوبكر يُعذّب، فقال لأمية بن خلف الجمحى: ألا تتقى الله فى هذا المسكين؟ فقال: أنت أفسدته فأبعدته، فقال: عندى غلام على دينك أسود أجلد من هذا أعطيكه به، قال: قبلت، فأعطاه أبوبكر غلامه وأخذ بلالًا فأعتقه، فهاجر وشهد المشاهد كلها مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم. كان بلال المستضعف الوحيد الذى أبى أن يعلن رضوخه للشرك ولو باللسان، رأى «عمارًا» وغيره من المستضعفين يفعلون وقلبهم مطمئن بالإيمان، لكنه رفض وتحمل فى سبيل ذلك ما لا يحتمله بشر من أذى.

خاض «بلال» المؤمن بدينه وبحرية الإنسان والحق فى المساواة ما بين البشر كل المواقف النضالية مع النبى، صلى الله عليه وسلم، خاض معه المعارك الدفاعية عن الإسلام، وتمكن من مُعذّبه أمية بن خلف فى موقعة بدر، وعانى بعد الهجرة إلى المدينة مما كان يظهر بها من أمراض وأوبئة. وقد ذكر «ابن كثير» فى «البداية والنهاية» أن بلالًا بن رباح كان يدعو على كبار عرب مكة قائلًا: «اللهم العن عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف كما أخرجونا إلى أرض الوباء»، ويقصد بأرض الوباء «يثرب» التى هاجر المسلمون إليها فرارًا من اضطهاد المشركين لهم.. ولم يسلم «بلال» من بعض التجاوزات العنصرية ضده حتى بعد إسلامه، كما حدث فى الواقعة التى يجتهد المؤرخون فى نفيها، وقيل فيها إن أبا ذر الغفارى سب بلالًا بن رباح ذات يوم قائلًا: «يا ابن السوداء»، الأمر الذى أغضب النبى، صلى الله عليه وسلم، فقال لأبى ذر: «إنك امرؤ فيك جاهلية».. من المعتاد أن يحاول المؤرخون تنقية صفحة الصحابة، رضوان الله عليهم، ويبذلون جهدهم فى تبرئتهم من أمور بشرية عادية، يصح أن يقع فيها أى إنسان، لكنها الرغبة الجارفة فى إضفاء نوع من القداسة على شخوصهم.. الواقعة يمكن أن تُقبل من أى شخص يفهم التركيبة المزاجية لأبى ذر، ويعلم أنه كان حاد الطبع، سريع الغضب، شديد الاعتداد بنفسه.

بعد وفاة النبى اعتزل بلال الناس واستأذن الخليفة أبا بكر فى الخروج إلى الشام ورابط بها، وامتنع تمامًا عن الأذان، إذ كان يرى نفسه مؤذن رسول الله.. المرة الوحيدة والأخيرة التى أذن فيها بلال كانت عند زيارة عمر بن الخطاب الشام، حين ترجاه الصحابة فى حث بلال على رفع الأذان، فاستجاب الصحابى الجليل، وانطلق صوته الرخيم العذب مكبرًا، هنالك انهمرت دموع الجميع بالحنين إلى ذكرى وعهد النبى، حين كان ينادى بلالًا ويقول له: «أرحنا بها يا بلال».

وإذا كانت الأقدار شاءت أن يكون أصل بلال حبشيًا من عائلة «أبرهة».. ونشأته وصباه فى مكة.. وأن يتعلق قلبه بالمدينة.. فقد شاء أن تختتم رحلته فى الشام حيث مات سنة ٢٠ هجرية.