رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مسلسل 1899.. الحقائق والظلال فى كهف أفلاطون «3-2»

يستلهم عدد من الأعمال الفنية العالمية أمثولة كهف أفلاطون التى أوردها الفيلسوف اليونانى أفلاطون فى كتابه «الجمهورية»، من هذه الأعمال: مسلسل ١٨٩٩ الذى يُعرض حاليًا على منصة نتفليكس، وفيلم us وtruman show ،the matrix ،Dark City.

تحكى القصة عن مجموعة من المساجين محبوسين منذ نعومة أظافرهم فى كهف تحت الأرض وهم يجلسون بحيث تكون ظهورهم موجهة لمدخل هذا الكهف. وهم مكبلون من أعناقهم وأرجلهم بحيث إنهم لا يستطيعون القيام أو الالتفات إلى الخلف. ويوجد خلف هؤلاء المساجين مسرح عالٍ لا يرونه كمسرح العرائس المتحركة. وتوجد فوق هذا المسرح نار خافتة هى مصدر الإضاءة الوحيد فى هذا الكهف. ويمر أمام هذه النار حراس وهم يحملون تماثيل ونماذج للأشياء المختلفة كالحيوانات والنباتات، فيرى المساجين ظلال هذه التماثيل والنماذج على الجدار القائم أمامهم. وأحيانًا يُصدر الحراس أصواتًا فيعتقد المساجين أن هذه الأصوات تصدر من الظلال أمامهم. ويكون شُغل المساجين الشاغل هو تفسير هذه الظلال. وقد يتبارون فيما بينهم فى تفسير ما يرونه ومَن منهم صاحب أفضل تفسير.

يجبر الحراس أحد السجناء على النهوض والخروج خارج الكهف إلى ضوء النهار.. فتعمى شدة الضوء خارج الكهف عينيه عن الرؤية، ويُصاب بالذعر والحيرة. ولكن بعد فترة سيتعلم أن يتأقلم على الوضع الجديد.. ويتعود أن ينظر للأشياء مباشرة، ويدرك العلاقة بين هذه الأشياء والظلال التى كان يراها سابقًا فى الكهف، ثم بعد ذلك سينظر إلى السماء ليرى الضياء والنجوم والقمر.

بل ينظر للشمس نفسها ويدرك أنها مصدر الضياء فى الكون، وسيدرك الحقيقة كاملة وسيحزن على حاله سابقًا وحال زملائه فى الكهف الآن. حيث إنهم قابعون فى أوهام ولا يدركون عن الواقع شيئًا.

ينزل السجين المتنور مرة أخرى إلى الكهف حيث يوجد رفاقه السابقون. ولكن السجين قد طرأ عليه تغيير، فهو لم يعد الرجل القديم نفسه، وعيناه لم تعودا معتادتين الظلام كما كانتا فى السابق. وسيعتقد زملاؤه أن رحلته للخارج قد أتلفت عينيه وسيحاول أن يخبرهم بالحقيقة ولكنهم لن يصدقوه وسيفشل فى أى تحدٍ يخوضه معهم. فعيناه لم تعودا تدركان ما كانتا تدركانه سابقًا. وسيسخر منه زملاؤه وسيقولون إن عقله قد تلف أيضًا، وإذا حاول أن ينهضهم بالقوة ويحملهم على الخروج إلى الخارج فسوف يثورون عليه وقد يقتلونه.

وكان أفلاطون متأثرًا بقصة سقراط ونهايته المأساوية. فسقراط كان رجلًا صالحًا يدافع عن القيم والأخلاق والحق، لكن قومه كرهوه واتهموه بأنه يتعرض لآلهتهم بسوء وتم الحكم عليه بالإعدام. ومات سقراط نتيجة لهذا الحكم الظالم ولم يهرب بالرغم من أن الفرصة قد واتته لعمل ذلك، ولكنه فضل الموت على أن يكسر القانون الذى عاش طوال عمره ينادى باحترامه.

وهذا حال كل الأنبياء والمصلحين والتنويريين فى كل زمان ومكان.. فهم لا كرامة لهم فى أوطانهم. فهؤلاء بالرغم من أنهم أصحاب رؤى مستنيرة وآمال مبشرة، إلا أن العامة قد لا تقبلهم وقد تلفظهم الأغلبية بالرغم من إخلاصهم ونبل مقاصدهم وحسن نواياهم.

يرمز الكهف فى أمثولة أفلاطون إلى كل القيود التى تحصرنا وتحاصرنا وتقولبنا فى شكل واحد وتحدٍ من إدراكنا ونمونا المعرفى والروحى، سواء كانت قيود الجسد أو الواقع الذى نعيشه أو كل ما ألفنا عليه واعتدناه، ويرمز ما خارج الكهف إلى كل الأفكار والمعتقدات والآراء التى لم نعتد عليها، عالم الحقائق الموضوعية الخارجة عن إطار حياتنا وخبراتنا، والسجين الذى يخرج هو المثقف والمتنور والفيلسوف الذى يتاح له أن يطلع على العالم والمعارف والحقائق الكامنة خارج أسوار الكهف.

وهناك من يفسر الأسطورة على مستوى أن الكهف هو الجسد الإنسانى، وأن ما خارجه هو عالم الروح، وأن ما بداخل الكهف هو عالم الظلال والأوهام، وأن ما خارجه هو عالم الحقيقة المطلقة، وقد أثرت هذه الأمثولة فى العديد من الفلاسفة والمفكرين أمثال «فرانسيس بيكون» الذى استخدم مصطلح «أصنام الكهف» للإشارة إلى أخطاء العقل الناشئة عن التحيزات والانشغالات الشخصية للأفراد. وذكر «توماس براون» فى خطابه عام ١٦٥٨، حوارًا بين رضيعين فى الرحم فيما يتعلق بحالة هذا العالم، قد يوضح بشكل رائع جهلنا بالآخر.

ولم يقتصر تأثير قصة الكهف على الفلسفة والحضارة الغربية، لكن امتد تأثيرها إلى عدد من الفلاسفة المسلمين مثل ابن سينا، إخوان الصفاء والسهروردى وغيرهم. 

.. وللحديث بقية