رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشاعر صالح جودت عن الاقتباس فى الموسيقى: موسيقانا تتجه إلى الغرب

 الشاعر صالح جودت
الشاعر صالح جودت

الشاعر صالح جودت، والذي يتزامن شهر ديسمبر مع ذكري ميلاده، تحديدًا في 12 ديسمبر من العام 1912، لم يكتف بكتابة الشعر وقرضه، والذي تغني به عمالقة الغناء والفن في مصر، بل خاض تجربة الكتابة عن الموسيقي ونقدها.

 

نشر الشاعر صالح جودت، في مجلة الكواكب المصرية في خمسينيات القرن المنصرم، مقالًا نقديًا عن الاقتباس في الموسيقى، وجاء تحت عنوان "موسيقانا تتجه إلى الغرب .. من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر".

 

يستهل "جودت" مقاله بالإشارة إلى فيلم "الموسيقى في الجنة"، وكيف ألهمه فكرة مقاله موضحًا: لا أستطيع أن أنسي فيلمًا قصيرًا شهدته ذات ليلة في إحدي دور السينما بالقاهرة منذ أربع سنوات أو خمس، اسمه "الموسيقى في الجنة". كان الفيلم قصيرًا لا يتجاوز مداه ربع ساعة، ومع هذا فإني أذكر أن الجمهور ظل يصفق له بعد انتهائه ربع ساعة.

 

وكان موضوعه بسيطًا ولكنه عظيم، هي قصة موسيقي أمريكي شاب، ممن يكتبون الموسيقى الراقصة الخفيفة. موسيقى "الجاز". مات ورحل إلى الآخرة يلتمس الجنة التي يعيش فيها أهل الفن في الآخرة. ودخلها فوجد بيتهوفن، شوبان، شوبرت، هايدن، وأضرابهم من الخالدين في دنيا الألحان.

 

وما كاد يطالعهم حتى سألوه من يكون، وما نتاجه؟، فراح يعزف لهم بعض موسيقاه الحديثة، فلم يؤمنوا بها، وسألوه إن كان له نتاج من النوع الكلاسيكي، فقال أجل، وراح يعزف لهم بعض مقطوعاته، فأعجبتهم، ولكن واحدًا من الخالدين تطلع إليه متحديًا قائلًا إن هذه المقطوعة مسروقة من سيمفونية له.

 

ــ ومن منكم لم يسرق ممن قبله

ويمضي صالح جودت لافتًا إلى: وهنا تتجلى عظمة الفيلم، أو عظمة مؤلف الفيلم، إذ يثور الموسيقي الشاب لهذا الاتهام، ويقوم للخالدين جميعًا: ومن منكم لم يسرق ممن قبله، إني أتحداكم جميعًا. وجلس الشاب إلى البيانو، وراح يعزف مقطوعة لواحد منهم، عرفوها جميعًا، فقال إنها مسروقة من مقطوعة أخرى لآخر منهم، وعزفها، فأقره الجميع على وجهة نظره وقام صاحب المقطوعة الأصلية يمسك بخناق السارق، وهو الآخر من الخالدين.

 

وظل الموسيقي الشاب يعزف مختلف المقطوعات، ويردها إلى أصولها، فإذا هم جميعًا لصوص، وإذا كل منهم قد سرق ممن قبله، وإذا هم جميعًا يتماسكون، ويتشابكون ويرمي كل منهم أخاه بالسرقة، وهكذا أثار الموسيقي الشاب معركة فنية في الجنة، فلم يسعهم جميعًا إلا أن يسمحوا له بالبقاء.

 

ويستدرك "جودت": وأقول عظمة الفيلم لأنه عرض علينا صورًا صادقة من مقطوعات لهؤلاء الخالدين، بيتهوفن، وشوبان، وشوبرت، وهايدن وأضرابهم، ثم كشف لنا كيف تأثر كل منهم بالآخر.

 

ــ معركة السرقات الفنية

ويوضح صالح جودت سبب ذكره قصة الفيلم:  ولعل القارئ بعد ذلك قد أدرك ما حملنا على سرد قصة هذا الفيلم. إنها معركة "السرقة الفنية"، تلك المعركة القديمة المتجددة، التي لم تزل الصحف والمجلات في مصر تعمد إلي إثارتها الفينة بعد الفينة، منذ أن بدأت موجة التجديد، أو "الفرنجة" أو "الاتجاه إلى الغرب"، تدخل على موسيقانا الشرقية. فالمعركة إذن ليست جديدة، بل لقد عشنا فيها منذ عشر سنوات أو أكثر قليلًا، أو على التحديد، منذ خرج موسيقيونا عن جمودهم، وبدأوا يتلفتون إلى ما يعجب الناس من ألحان الأفلام الأمريكية والفرنسية والإيطالية واليونانية، ويستمعون في البرنامج الأوروبي للإذاعة المصرية إلى بعض الأسطوانات الغربية، مثل "المعبد الصيني"، و"السوق الفارسية" وما إليها من الألحان الغربية المعروفة التي ظهر أثرها واضحًا في نتاج أفلام الموسيقى والألحان في مصر، فتهامس الناس، ثم راح الموسيقيون أنفسهم يغمز بعضهم بعضًا، ثم تحركت أقلام النقاد فأشعلت أوار المعركة التي استمرت طوال هذه السنوات، والتي ستستمر إلى أن يصدر قانون الملكية الفنية والأدبية. ويومئذ لن تنقطع السرقة، ولكنها ستتحول إلى تأثر مقترن بالاجتهاد، أعني أن الموسيقي يومئذ سيضطر عند التأثر بلحن غربي يسمعه، أن يجتهد فيه ليمصره، ثم يعترف عند تقديمه بأنه تأثر فيه باللحن الأصلي، ولا يجرؤ أن يدعيه لنفسه. وهذا هو الذي نريد. أجل، نحن لا نريد أن نقطع الصلة بين موسيقانا وموسيقى الغرب، ونعود إلى موسيقى "يا ليل يا عين"، والمواويل والأدوار التي عفا عليها الزمن حتى قتلت الأرواح وأصبحت ضربًا من الكلورفورم.

 

ــ تمصير الموسيقي قضية قومية

ويشدد صالح جودت علي: ثم إذا أخذناها قضية قومية، فيجب أن نفطن إلى حقيقة كبرى، هي أن ما يسمونه بالموسيقى الشرقية، لا يمت إلى مصر بصلة، إنها خليط عجيب من موسيقى العرب والهند والفرس والترك، فهي ليست موسيقانا، ويجب أن يتحرك معهد الموسيقى، وأن يتحرك معه الموسيقيون، ليستحدثوا ما هو جدير بأن نسميه موسيقى مصرية. ولكي نصل إلى هذا الحلم المنشود، يجب أن نتأثر بروح العصر التي تتمثل في موسيقى الغرب، أي تحويرها على صور تلائم روح مصر وجوها وبيئتها وعاطفتها ولا أحب أن أسمي هذا التأثر سرقة.