رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

احترام كرة القدم!

بينما أشاهد مباراة من مباريات كأس العالم ضغطت طفلتي الصغيرة زر الريموت بالخطأ فتغيرت القناة التي أنا مشترك فيها للدخول في أجواء البطولة المثيرة الكبرى، وإذا بمباراة محلية مذاعة في نفس التوقيت على قناة من قنواتنا المتاحة التي لا تتطلب كلفة مادية لمشاهدة مادتها، كدت أنهر الصغيرة العابثة، لكنني ابتسمت لها وقد رسخ بداخلي يقين بأن احترام كرة القدم، مهما يكن المستوى المقدم، إحدى الرسائل العميقة لفاعلية كأس العالم نفسها!

يعني احترام كرة القدم أن يعاملها المشاهد على أنها منافسات جدية تمامًا، تعلو على مفهوم التسلية وإن لم تخل منها، ويعني بالأساس أنها شيء أبعد من مجرد أقدام تركل كرة جلدية؛ فمحصلة الجهد المبذول في المستطيل الأخضر الذي هو موضع اللعب، الجهد البدني والخططي والإداري، من أجل نوال الانتصار، تعكس قيمة مهمة تتضمن جملة من القيم التي لا تقل أهمية.. ولكل فرد أن يتأمل الحكاية تأملًا ثاقبًا لحصد منافعها، تأملًا لا ينقصه وعي ولا ذكاء بكل تأكيد.
اللعبة الشعبية الأشهر بمثابة مجال مغناطيسي تدور تجليات البشرية معه حيث دار، ويظهر ذلك، أكثر ما يظهر، في كأس العالم، ففيه خيوط كثيفة من فنون الأمم وفيه كثير من أحزانها وسعادتها وهدوئها وصخبها وعقلها وجنونها وآمالها وآلامها وأهدافها المحققة وفرصها الضائعة بالمثل.. كل شيء هنالك ينادي العالم بأسره أن يعامل الكرة معاملة رفيعة لائقة؛ فلا يستهين بها ولا ينقم منها أيًا كانت الأسباب!
جاءت الدورة الثانية والعشرون، من دورات الكأس العالمية، في أجواء عاصفة؛ فالدنيا ليست على ما يرام، وظلال الحروب تنطبع في المشارق والمغارب، بطبول قوية ناعقة، كأن معظم الدول قررت الانتحار، واحدة تجر أخرى، والخلق على أعتاب قيامة ما.. جاءت لتمتص كثيرًا من الغضب الذي لا داعي له، ولتدعو الناس جميعًا إلى سلام حقيقي كمثل السلام الذي سبق ودعا إليه أكابر الأنبياء والحكماء.. ومن الجميل طبعًا أن تكون هذه الكأس مقامة على أرض عربية، هي أرض قطر التي نشكرها عندما تستحق الشكر كما نعتب عليها حين يستدعي الأمر عتابًا بالحق، ومن الجميل أن تكون ناجحة، حتى الساعة، في مجرياتها بالعموم. نتلقى دروسًا من الكأس الكروية، دروسًا بليغة في نواح شتى، تتجاوز الكرة.
الكرة نفسها إلى آفاق ممتدة ذت اليمين وذات اليسار، ونرى أعاجيب لا حصر لها، كل أعجوبة تفتح لنا أبوابًا جديدة للفهم العام الشامل لو أننا أحسنا النظر إليها وقرأنا سطورها بأناة وصبر..
كأس العالم مناسبة تتجدد كل أربع سنوات، لكنها للحلم لا اليأس، هذا ما يجب الإيمان به حتى لو لم يكن فريقنا القومي هناك، ويجب أيضًا، وبصورة سرمدية، أن نتعلم احترام الكرة وأن نوطن أنفسنا على محبتها واستيعاب تقلباتها!