رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لحن ريفى طازج

لا أدّعى أننى من المتخصصين فى الموسيقى وفن تلاوة القرآن والغناء، أنا مجرد سميع تقليدى يحب أن يشاركه أصدقاؤه ما يحب، وأحيانًا أذهب كضيف فى التليفزيون أو الإذاعة لهذا الغرض، وربما علاقتى هذه سببها اقترابى من عدد كبير من صناع النغم من ملحنين وشعراء يكتبون الأغنية، ومغنين ونقاد وسميعة عظام صادقتهم وتتلمذت على أيديهم، إلى جوار الخبرة الشخصية التى لا تختلف عن الآخرين. 

هذا الفن أو هذه الفنون هى الملاذ الآمن بعيدًا عن الحسابات اليومية الخانقة، يلجأ إليها الواحد منا لأنه لو شغل نفسه بقراءة الواقع سيقع من طوله، فن الغناء ليس على ما يرام منذ سنوات، ليس بسبب عزوف الدولة والاحتكارات الخليجية فقط، أيضًا بسبب ما يعانيه المصريون من وحشة غير مسبوقة، واهتزاز فى الثقة بالمستقبل، المهم، طلبت منى إذاعة «صوت العرب» قبل سنوات الحديث عن خمس أغانٍ أختارها لبرنامج «أغانى وعجبانى»، وهى مهمة صعبة بالطبع، لأنك لن تتمكن فى نصف ساعة من اختيار ما يمثل ذائقتك، وستضطر لاستبعاد المئات وربما الآلاف من الأغنيات التى تحب أن تستمع إليها مع المستمع العربى، اخترت عشر أغانٍ ودونتها، وقلت لنفسى نختار منها ونحن فى الاستديو. كانت ذكرى المولد النبوى أيامها على الأبواب، وكانت الحلوى قد تأخرت عن الظهور فى «الشوادر»، لأسباب مفهومة.. لمحت «شادرًا» صغيرًا وأنا أقطع الطريق من بولاق مصر التى هى بولاق أبوالعلا إلى ماسبيرو، «قبل التطوير»، أطلت من مذياع بداخله أغنية «ألفين صلاة ع النبى.. ألفين صلاة ع الزين»، فرفرف قلبى، هى أغنية فريدة من نوعها، لأنه عادة ما تتلبس ملحن وشاعر ومطرب الأغنية الدينية حالة من الورع والوقار، وهى حالة صادقة لا شك، ولكن فى هذا اللحن يوجد فرح فطرى، تشم حين تسمعه رائحة ذكية قديمة مرتبطة بالأعياد القديمة، وتتخيل البيارق والألعاب والحلوى والألوان الزاهية، لحن مصرى ريفى طازج.

ألفين صلاة على النبى.. ألفين صلاة ع الزين

وجه الكريم مكسبى.. والصبر آخره زين

الشاعر انتهز فرصة ذكر النبى ليتضرع إلى الله، طالبًا الرزق والستر والرضا، شاعر بسيط صادق، يعبر عن نفسه وذويه بعذوبة مصرية نادرة، وإمام الصفطاوى شاعر من طراز خاص، لحن له أحمد صدقى والقصبجى وعلى إسماعيل وحلمى بكر وغيرهم، وتغنت بهذه الألحان أصوات ناصعة مثل نجاة على وعبدالحليم حافظ وسعاد محمد وأحلام ومحمد قنديل وحورية حسن وغيرهم. 

الصفطاوى ابن حى بولاق أبوالعلا، لم يكمل دراسته فى كلية الحقوق، وتحقق أيضًا كحارس مرمى لنادى الأهلى، وشبهه الجمهور بيورجو الحارس اليونانى المشهور، كما قام بالتمثيل فى أدوار صغيرة هنا وهناك، رجل بهذا التكوين وهذه البساطة، يقدم كلماته لملحن عبقرى من طراز فريد اسمه عبدالعظيم عبدالحق، الذى يجهل كثيرون أهميته كملحن، واختزله آخرون فى مشهد فى السينما أو دور فى مسلسل، عظمة.. كما كان يناديه محبوه، صاحب رصيد نوعى فى وجدان الموسيقى العربية فى مصر، بعيدًا عن أسرته المنياوية العريقة وإخوته الوزراء، فهو تتلمذ على يدى الشيخ محمود صبح والشيخ زكريا أحمد، قبل أن يلتحق بمعهد الموسيقى، زميلًا لكمال الطويل وعبدالحليم، وكان وقتها قد تجاوز الأربعين من عمره، من ألحانه الجميلة «تحت السجر يا وهيبة» كلمات الأبنودى وغناء رشدى، «قلبى حبك» لإسماعيل شبانة، و«هدى» لمحمد عبدالمطلب و«يانا ويانا» لسعاد محمد، وأكثر من ٤٠٠ لأصوات رائعة مثل ليلى مراد وحورية حسن وعائشة حسن ونعمت مختار وعصمت عبدالعليم ونجاح سلام وعباس البليدى ومديحة عبدالحليم وسيد إسماعيل ونور الهدى، وغيرهم من خيرة الأصوات، فى لحن «ألفين صلاة على النبى» صاغ «عظمة» الوجدان الجمعى المؤمن بخبرات عريقة مع الناس ومع التراث الصوفى والشعبى، ثم يجىء صوت محمد قنديل ليضيف إلى مشاعر الصفطاوى وعبدالحق صفاء وبهجة ورقة جعلت الأغنية تخطف القلب، فى حديث إذاعى أُجرى مع أم كلثوم عام ١٩٦٥، سُئلت عن صاحب أفضل صوت فى الوطن العربى أجابت: «إنه محمد قنديل، وبعد ذلك أكد محمد عبدالوهاب فى حديث آخر أنها لم تقل غير الحقيقة، أما عبدالحليم حافظ فقال عنه إنه المطرب الوحيد الذى لا يخدع الأذن، لأن قدراته الغنائية تصل إلى ألف فى المائة، وتتجاوز الستين مقامًا، فى حين لا تتجاوز قدراتنا ٢٠ مقامًا».. ألفين صلاة ع النبى أغنية عظيمة، تتجاوز فكرة التدين، وتشير إلى قلب مصر الأخضر.. الذى ينتظر الفرج من الله.