رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المدن الجديدة

التأمل فى خريطة المدن الجديدة فى مصر منذ ٢٠١٤ يثير التساؤل حول سباق تغيير الواقع الذى دخلته الدولة المصرية.. وحول مدى معلوماتنا حول كثير مما يحدث ومدى استقبالنا له بالجدية اللازمة.. إن التوسع العمرانى هو من أهم أدوار الدولة المصرية خلال تاريخها وهو ضرورة واجبة بسبب زيادة أعداد المصريين الكبيرة.. وهو سنة حميدة اتبعتها الحكومات الراغبة فى إنجاز النهضة حتى فى مرحلة ما قبل الانفجار السكانى.. وقد بدأ التوسع الكبير للقاهرة والذى قادها لشكلها الحالى على يد الخديو إسماعيل بن إبراهيم بن محمد على.. الذى كانت القاهرة فى عهده باقية على حالها الذى تركها عليه الفاطميون تقريبًا.. حيث تنحصر أحياؤها فى الأزهر والحسين وجميع الأحياء التى صرنا نطلق عليها الآن القاهرة الفاطمية.. وكان أول توسع للغرب فى اتجاه النيل.. حيث بنيت منطقة وسط البلد والعتبة «كانت مقابر قبل بنائها» وتم تخطيط القاهرة على يد المهندس الفرنسى الذى خطط باريس.. بعدها تم التوسع تجاه الشرق وبنى البارون إمبان حى مصر الجديدة.. وتم تخطيط صحراء العباسية.. وفى ١٩٥٠تم تخطيط حى المهندسين فى الجيزة، وفى بداية الستينيات خطط المهندس سيد كريم حى مدينة نصر ليكون عاصمة جديدة لمصر.. وما حدث منذ السبعينيات أن الدولة انسحبت جزئيًا فتركت للأهالى بناء حى الهرم وفيصل اللذين كانا من قبل أراضى زراعية.. ثم شرع المهندس حسب الله الكفراوى فى بناء المدن الجديدة.. وكان من المخطط نقل الوزارات لمدينة السادات، ولكن وفاة الرئيس السادات أوقفت الفكرة التى كانت لازمة وضرورية لتفريغ القاهرة من زحامها.. ومع زيادة معدلات الزيادة السكانية عجزت الدولة فى التسعينيات عن البناء المخطط وتخلت عن دورها فى التخطيط، وتلبية حق الناس فى سكن آدمى.. فظهرت ظواهر لم تعرفها مصر سوى فى عصر الرئيس مبارك.. كانت أولاها سكن الأحياء فى المقابر، ثم العشوائيات التى هى بناء غير مخطط يقوم به الراغبون فى السكن لأنهم لم يجدوا مدنًا مخططة، وكانت المفارقة أن الدولة لم توفر لأحد سكنًا بمعدلات كافية، ولم تمنع أحدًا أيضًا من البناء العشوائى.. فيما بدا أنه اتباع لسياسة «تكبير الدماغ» وترك النمو يحدث دون تخطيط أو لا يحدث من الأساس! وبلغ عدد المناطق العشوائية خمسمائة منطقة عشوائية معظمها فى القاهرة.. وبدا الأمر صدمة حين أصدر صحفى إخوانى كتابًا عن الظاهرة فى أواخر عصر مبارك.. فالجميع كان يتظاهر أن الأمور على ما يرام.. ولأن النمو المخطط كان استراتيجية للدولة فى عهد الرئيس السيسى، فضلًا عن الإيمان بحق كل مصرى فى سكن كريم، وبضرورة الخروج من الوادى الضيق بعد طول حديث عن هذا الخروج.. فقد شرعت الدولة فى بناء ثلاثين مدينة جديدة.. منها اثنتان وعشرون مدينة قيد التنفيذ بالفعل وبعضها تم الانتهاء منها مثل المنصورة الجديدة وهى مدينة سياحية صناعية من مدن الجيل الرابع وقد يفاجأ الكثيرون إذا عرفوا أنها تمتد ١٤ كيلومترًا على ساحل البحر المتوسط.. حيث اعتاد المصريون على أن المدن الساحلية هى الإسكندرية ومرسى مطروح فقط.. لكن الحقيقة أن الدلتا تمتد على البحر المتوسط من خلال محافظات عدة منها الدقهلية وكفرالشيخ.. وحسب الأرقام المعلنة فإن ميزانية بناء المدن الثلاثين الجديدة تبلغ ٦٩٠ مليار جنيه.. وهى ميزانية بسيطة إذا قورنت بأهمية هذه المدن التى ستستوعب ثلاثين مليون مصرى يصلون إلى الحياة خلال الخمسة عشر عامًا المقبلة، وفق مؤشرات الزيادة السكانية التى تقول إننا نزيد بمعدل اثنين مليون مولود تقريبًا فى كل عام.. والحقيقة أن التخلف عن بناء المدن الجديدة وإتاحتها لكل المصريين كان جريمة كبيرة فالجيل الأول من المدن تم تخطيطه فى عهد الرئيس السادات.. وشهد نوعًا من التباطؤ فى إتمامه فى الثمانينيات.. ثم تغييرًا لاستراتيجية السكن فيه بعد ذلك، وتراجعت الدولة عن بناء مشاريع سكنية مخططة وذات سعر مقبول بعد رحيل الوزير حسب الله الكفراوى.. والأهم أن الرئيس الأسبق رفض مد خطوط المترو للمدن الجديدة رغم أهمية ذلك لتيسير الانتقال إليها وتأمين مواصلات جماعية نظيفة تقلل الازدحام فى الشوارع بالسيارات الخاصة وسيارات الميكروباص.. وكان بعض ذوى المنطق الفاسد يعترضون على بناء المدن الجديدة فى عهد الرئيس السادات.. ولولاها لكانت القاهرة القديمة قد انفجرت من الزحام. فقد استوعبت هذه المدن ملايين المصريين فى السنوات العشر أو الخمس عشرة الأخيرة والمفارقة أن بعضها ازدحمت حتى أقدمت الدولة على بناء مدن جديدة مجاورة لها أو امتدادات لها.. فهناك زايد الجديدة وأكتوبر الجديدة وحدائق أكتوبر وهناك مدن جديدة فى الصعيد الذى حرم كثيرًا من التنمية مثل أسيوط الجديدة وبنى مزار الجديدة والأقصر الجديدة وأسوان الجديدة وتوشكى الجديدة وملوى الجديدة وأخميم الجديدة.. فضلًا عن بناء مدن جديدة فى الغردقة والنوبارية وتوشكى.. وأخيرًا وليس آخرًا المنصورة الجديدة التى يفرح بها المصريون هذه الأيام كدليل على عمل دءوب يتم طوال الوقت لتغيير الواقع ولتحقيق وجهة نظر الرئيس فى ضرورة أن تسبق الدولة الزيادة السكانية بمخططات النمو وبضرورة تخطيط مدن متكاملة تلبى حق الناس فى السكن وفى الحياة الكريمة وتغلق الباب أمام البناء العشوائى وغير المخطط الذى لم يفرز سوى أنماط حياة غير صحية وغير آدمية ولا يستحقها المصريون.. إن افتتاح المنصورة الجديدة هو أبلغ رد على كتائب الظرفاء المستأجرة التى كانت تحاول تشكيك الناس فيما يجرى من عمل وفى جدواه، بينما نتائج العمل الجاد ماثلة على الأرض وواضحة للعيان لكن الغرض مرض كما يقولون. ولكن الله غالب على أمره.