رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عباس الطرابيلى يكتب: هكذا بنى المصريون القاهرة الخديوية «1-2»

عباس الطرابيلى
عباس الطرابيلى

على باشا مبارك أشرف على التنفيذ و«هوسمان» صاحب مخطط تطوير باريس هو الذى طور القاهرة

ميدان العتبة كانت مكانه مقابر تم نقلها وجمعت عظام الموتى فى مسجد بعابدين

خطة من سبع مراحل أدت لتطوير القاهرة وظهورها فى صورتها الحالية

إحدى مشاكل التاريخ فى مصر أننا نكتبه بوجهة نظر عاطفية أحيانًا وسياسية أحيانًا أخرى، وأننا نختزل بعض المراحل فى مشهد واحد رغم أنها تحتوى على آلاف المشاهد، وأننا نذكر السلبيات دائمًا وننسى الإيجابيات أحيانًا، رغم أنه لا توجد مرحلة بلا إيجابيات ولا سلبيات.. أما المشكلة الأكبر فهى أننا نعتبر أن من يعمل مساوٍ فى تاريخنا لمن لا يعمل، وأننا إذا كرهنا الحاكم لأى سبب أهدرنا إنجازاته وأنكرنا ما أعطاه للبلد من جهد وعرق وتغيير ملموس نعيش فى نتائجه حتى الآن.. ولعل أكبر نموذج على ذلك هو خديو مصر إسماعيل بن إبراهيم بن محمد على وهو حاكم من أهم الحكام فى تاريخ مصر لكننا اختصرنا صورته فى أنه الرجل الذى يطارد المطربة «ألمظ» فى فيلم «ألمظ وعبده الحامولى» أو أنه الرجل الذى تعمد أن تمر العربة التى يركبها مع الإمبراطورة «أوجينى» على مطبات كثيرة حتى يستطيع أن يميل عليها بجسده.. وهو خيال شعبى تافه ومراهق.. وصورة سلبية رسمت لأسباب سياسية بعد ثورة يوليو ولم يعد لها أى داعٍ الآن.. فقد انتهى حكم أسرة محمد على إلى الأبد لأنها فقدت شرعية الإنجاز فى عهد آخر حكامها فاروق.. لكن يبقى أن علينا أن نعرف تاريخنا وأن ندرك أن هذه المدينة التى نعيش فيها ونفخر بها رغم كل شىء بنيت نتيجة عرق وجهد وتخطيط.. وتمويل.. وأن هذا الجهد استدعى أمورًا مشابهة لما يعترض عليه البعض الآن دون فهم أو وعى.. ومن المعلومات المهمة جدًا فى المقال الذى ستقرأه بعد قليل أن منطقة العتبة كانت منطقة مقابر، وأن على باشا مبارك جمع العظام التى كانت موجودة فى المقابر ودفنها كلها فى مسجد عُرف باسم جامع العظام فى عابدين.. ولولا هذه الخطوة لما كان لدينا ميدان العتبة الذى يؤمه ملايين المصريين يوميًا.. ويكسبون أرزاقهم بطرق مختلفة من أنواع التجارة المستقرة فيه.. إن أسوأ ما يحدث لبلد أن يعتبر أن الحاكم الذى يعمل مثل الحاكم الذى لا يعمل.. وأن الذى يبنى مثل الذى يهدم وأن الذى يؤسس مثل الذى يبيع.. فى الكتاب التالى يروى الأستاذ عباس الطرابيلى قصة أحياء القاهرة المختلفة وكيف ظهرت تاريخيًا وكيف تطورت.. وهو فى هذا الفصل يتحدث عن نشأة القاهرة الخديوية وكيف اتخذ الخديو إسماعيل قرار إنشائها وكيف أشرف على الإنشاء على باشا مبارك زميله فى دراسة الهندسة فى باريس وكيف خطط لأحياء القاهرة الجديدة المهندس الفرنسى «هوسمان» بعد أن انتهى من وضع خطة تطوير باريس؟.. فى السطور التالية جزء من تاريخ مصر يجعلنا نشعر بالفخر حين نقرأه لأننا سبقنا من حولنا بسنوات طويلة جدًا.. ويجعلنا أيضًا نشعر بالحماس لأن نستعيد ما كنا عليه وأن نحافظ على ما لدينا ونطوره ونضيف إليه، ويجعلنا أيضًا نشعر بالأسى من أجل الذين لا يقرأون التاريخ ويعترضون على التطوير والبناء لأسباب متعددة.. قد يكون من بينها الجهل أو سوء النية أو أى سبب آخر.. قراءة ممتعة لقصة تأسيس القاهرة الخديوية فى السطور التالية بإذن الله.

                                                                                                                           وائل لطفي

من المؤكد أن «مصر المحروسة» تدين بتحديثها وتطويرها إلى الخديو إسماعيل، فهو بحق صاحب الطفرة الهائلة التى عاشتها العاصمة على مدى قرن كامل.

إذ عندما تولى إسماعيل حكم مصر فى ١٨ يناير ١٨٦٣م بعد وفاة عمه سعيد باشا، هاله ما انحدرت إليه حال البلاد، بل وأحزنه أن يجد عاصمة بلاده لا تزيد على مدينة صغيرة تمتد من سفح المقطم والقلعة، وتنحدر غربًا لتنتهى عند ميدان العتبة الخضراء، وتحيط بها، وتتخللها، مجموعة من الخرائب والمستنقعات، وأحزنه توقف عجلة الإصلاح التى بدأت فى عهد جده محمد على، بل التى أفنى فيها حياته.

كانت القاهرة تبعد عن شط النيل بأكثر من أربعة كيلومترات.. تكثر فيها البرك والمستنقعات والهضاب والتلال. فى المنطقة- من ميدان العتبة الحالى إلى شاطئ النيل عند بولاق- وكانت تلك البرك مصدرًا خطيرًا للناموس، حتى إن الملاريا ضربت العاصمة فى السنة الأولى من حكم إسماعيل، وفتكت بالكثير من السكان.

ولم يكن بالقاهرة أى نظام لتوزيع مياه شرب صحية، ولا أى نظام للصرف الصحى، وكانت المخلفات تجمع فى المجارير فتتسرب مياهها إلى البرك، التى يحصل منها سكان العاصمة على المياه! فساعد ذلك على انتشار التيفود وأنواع عديدة من الأمراض. وكانت هذه المجارير كثيرًا ما تطفح فى الشوارع والحوارى، عندما يرتفع منسوب الفيضان فى أشهر الصيف. وارتفع منسوب المياه الجوفية مما هدد البيوت بالانهيار، وكانت تحيط بالقاهرة حقول الفجل عند شمال القاهرة «باب الحديد»، حيث الفجالة وكانت المقابر تحيط بالقاهرة، بل تتخلل أحياءها.. وكانت التلال تحد المدينة من الغرب، أما الجهة الجنوبية فكانت هناك بقايا وخرائب مصر العتيقة والفسطاط وتلال زينهم.

كانت إذًا مهمة صعبة أمام إسماعيل، الذى كان يحلم بأن تصبح عاصمة ملكه هى باريس الشرق.. بعد أن عاش ودرس فى باريس الأصلية عاصمة فرنسا.

وكان مشروع تحديث مصر المحروسة يقوم على ٧ قواعد، حتى إنه أطلق عليه «برنامج المشروعات السبعة»، لأنه كان يحتوى على ٧ مشروعات حيوية.

كان المشروع الأول هو «تحويل مجرى النيل»، وبمعنى أدق تثبيت مجرى النيل عند القاهرة.. إذ كان المجرى الرئيسى يمر فى الجهة الغربية محاذيًا لشارع الدقى الآن مارًا ببولاق الدكرور وإمبابة. وكان الفرع الشرقى أو النيل الحالى عبارة عن «سيالة» ضيقة تنحسر عنها المياه أكثر شهور السنة؛ بسبب ارتفاع منسوب القاع. وكان السقاؤون يحملون منها المياه إلى أحياء القاهرة.. وبسبب تلوث مياه النيل عند هذه السيالة شبه الراكدة، انتشرت الأمراض لأن هذه السيالة كانت مرتعًا للناموس، فلما تولى إسماعيل حكم مصر، وضع فى مقدمة مشروعاته لتطوير العاصمة مشروع تحويل مجرى النيل الأصلى من الجهة الغربية «عند الجيزة» إلى الجهة الشرقية محاذيًا للقاهرة.

ولمن لا يعلم.. كان مجرى النيل يتجه باستمرار نحو الغرب، بل كان مجرى النيل يسير تقريبًا عند شارع منصور الحالى.. أى كانت كل منطقة الوزارات الحالية ومجلس الشعب ومقر مجلس الوزراء، كانت كلها فى.. غرب النيل.. فما بالنا بكل حى جاردن سيتى والمنيرة.

وبدأ إسماعيل مشروع تحويل مجرى النيل فى أواخر العام الأول من حكمه «١٨٦٣»، عندما بدأ ديوان الهندسة بإقامة جسر فى النيل يبدأ من مدينة الجيزة ويمتد إلى إمبابة، واستمر هذا العمل حوالى عامين كان ينقل فيهما الطمى والرمل والأحجار ليردم ما بين هذا الجسر والأرض غرب النيل، وكان الهدف تثبيت مجرى النيل بأى ثمن. هذا الجسر هو الآن شارع النيل من كوبرى الجلاء حاليًا إلى إمبابة.. وهو شارع النيل والجيزة من كوبرى عباس الحالى إلى كوبرى الجلاء، ويلاحظ أن هذه الشوارع تعلو كثيرًا عن مجرى النيل.. بينما تنخفض الأراضى غربى هذه الشوارع، أى هى الجسر الذى صنعه إسماعيل لمنع استمرار تحرك النيل غربًا.

وهكذا كسبنا مساحات هائلة من الأراضى، هى الآن مناطق حدائق الحيوان والأورمان والمساحة والدقى والعجوزة.

وبذلك أصبح المجرى الرئيسى للنيل عند القاهرة هو المجرى الشرقى من شمال جزيرة الروضة إلى بولاق.. وتحول المجرى القديم الأصلى من شط الجيزة ليصبح هذا المجرى هو المجرى الضيق، هو البحر الأعلى بين كوبرى الجلاء وكوبرى الزمالك إلى أن تنتهى جزيرة الزمالك أمام إمبابة.

كان هذا إذًا هو أول مشروعات إسماعيل لتحديد مساحة القاهرة والسيطرة على النيل.

وكان المشروع الحيوى الثانى هو إزالة التلال والخرائب التى كانت تحيط بالقاهرة أو تتوسطها وتمهيد أرضها وإعدادها للبناء، وأيضًا ردم البرك والمستنقعات التى كانت منتشرة وسط القاهرة. وبلغ ما قام بردمه ٢٠ بركة ومستنقعًا، تعادل بالضبط كل المساحة التى خصصها جوهر الصقلى لسكنى القاهرة الفاطمية!!

ثم شرع فى نقل المدافن التى كانت تقع وسط القاهرة وتحويل أراضيها إلى ميادين وأحياء سكنية.. ومن أشهر تلك المدافن ما كان موجودًا فى المنطقة المحيطة بميدان العتبة وأول شارع الأزهر الحالى وأول شارع عبدالعزيز. وقد جمع العظام من هذه المقابر ودفنها فى بئر أقام عليها جامعًا يعرفه العامة الآن باسم «جامع العظام»، الواقع على يمين المتجه من العتبة إلى عابدين، وهو فى النصف الأول من الشارع.. وبدأ التفكير فى وضع نظام لتزويد العاصمة بمياه الشرب الصحية المرشحة لوقاية الناس من استخدام المياه الراكدة.. وتجفيف الأراضى والتفكير فى تنفيذ مشروع لمجارى العاصمة، ولكن هذا المشروع لم يتحقق إلا عام ١٩٠٩م، فى عصر حفيده الخديو عباس حلمى الثانى على يد المهندس كاركت جيمس.

وبدأ إسماعيل برنامجًا لشق عديد من الطرق والشوارع والميادين وغرسها بالأشجار ووقايتها من القاذورات، ثم إنشاء عديد من الحدائق والمتنزهات، وتعمير الأحياء الفقيرة وإصلاحها وإصلاح مداخل العاصمة.

وحتى ينفذ إسماعيل مشروعاته هذه وغيرها، كان بحاجة إلى مهندس كبير بجواره ووجد ضالته فى على باشا مبارك، الذى كان أحد أعضاء البعثات التى أرسلها محمد على للدراسة فى أوروبا، وعاد بعد أن أنهى دراسته، بعد أن مات محمد على باشا.. وبدأ إسماعيل أعماله بإنشاء وزارة الأشغال عام ١٨٦٥م، وبالطبع لم تكن بالاسم ذاته، ولكنها قامت بعمل هذه الوزارة خير قيام. ووضع على مبارك لائحة من ٣٤ مادة، تحدد إطارًا للمشروعات التى كان يحلم بها إسماعيل باشا، وذلك فى يوليو عام ١٨٦٨م.. وهذه اللائحة أو الدراسة هى التى اعتمد عليها هوسيمان جراند بك عندما كلفه إسماعيل باشا بوضع خريطة للقاهرة عام ١٨٧٤م، واستوحى هذه الخريطة من أفكار ومقترحات المهندس الفرنسى هوسمان.

** ففى أثناء زيارة إسماعيل باريس لمتابعة المعرض الدولى التقى المهندس هوسمان أشهر مهندسى فرنسا، الذى قام بإعادة تنظيم مدينة باريس، وحول مجارى باريس من قنوات مكشوفة إلى أنفاق مغطاة.. واتفق إسماعيل مع هوسمان على أن يحضر إلى القاهرة ليضع تخطيطًا جديدًا لها، ويفكر فى بناء أحياء جديدة وميادين جديدة.. وفى باريس أيضًا التقى إسماعيل مسيو بيير جراند بك، الذى عهد إليه إدارة مصلحة الطرق والكبارى. كما التقى مسيو بيريلى دى شامب، الذى أقام غابة بولونيا غربى باريس، وطلب منه تصميم حديقة أو غابة مماثلة لغابة بولونيا مكان بركة الأزبكية، وكان بيريلى هذا هو الذى صمم حدائق قصر الجيزة، وقصر الجزيرة أيضًا.

وواجه إسماعيل لتنفيذ مشروع تطوير عاصمته الكثير من المشاكل بسبب طبيعة إنشاء القاهرة القديمة وقبلها الفسطاط والقطائع والعسكر.. وهكذا جاءته فكرة إنشاء أحياء جديدة على أحدث طراز، ما دامت عمليات تجميل القاهرة القديمة تواجه هذه المشاكل.. ومن هنا جاءته فكرة إنشاء واجهة أوروبية جديدة، على شكل أحياء جديدة تلصق بالحدود الغربية للعاصمة، أى فى اتجاه شاطئ النيل. ومن هنا نشأت فكرة إنشاء أحياء الإسماعيلية، وباب اللوق، والأزبكية، والأورمان وكل المنطقة الممتدة من ميدان الإسماعيلية «التحرير الآن» إلى منطقة التوفيقية، لتصبح هى قلب العاصمة، كما أنشأ حى عابدين، عندما قرر الانتقال للإقامة فى مقر الحكم الجديد فى قصر عابدين.

ومن أوائل مشروعاته توصيل مياه الشرب لسكان عاصمته..

ولهذه المياه حكايات..

كانت القاهرة تعيش على مياه النيل، ولكنه كان بعيدًا عنها، ومن هنا كان الخليج المصرى - خليج أمير المؤمنين- هو المصدر الأول لتوفير مياه الشرب للسكان، فكان السقاؤون يحملون منه المياه إلى المنازل وإلى المساجد والوكالات.

فلما ابتعد النيل غربًا أكثر، حفر الناصر محمد بن قلاوون الخليج الناصرى لتسهيل مهمة الحصول على الماء.

وعندما كان الفيضان يأتى فى أغسطس من كل عام، كان يتم «جبر الخليج» أى فتح السد المقام عند «فم الخليج» فى احتفال كبير لتنطلق مياه الفيضان عبر خليج أمير المؤمنين، وكان عرضه حوالى ١٠ أمتار، فينطلق غرب القاهرة «ومكانه الآن شارع بورسعيد من السيدة زينب إلى باب الشعرية إلى غمرة إلى الوايلى...».

** وبفتح الخليج كانت مياه النيل تنطلق فى الخليج لتمر على البرك، التى كانت تنتشر فى العاصمة لتملأها وتنتعش، فيحصل الناس على حاجاتهم من المياه بسهولة، طوال فترة الفيضان.

وكانت قناطر المياه «سور العيون» وسيلة أخرى لنقل المياه - أعلى السور- من عند فم الخليج أيضًا إلى القلعة، حيث مقر الحكم وجنود السلطان.. وحيث بساتين ميدان الرميلة «ميدان القلعة».

ولتوفير المياه للقاهرة، فكر محمد على باشا فى حفر ترعة فمها عند شرق إطفيح على أن تصب فى الخليج المصرى ليجرى فيه الماء صيفًا وشتاء داخل القاهرة، ليواجه مشاكل نقص المياه بعد انحسار الفيضان، ولكن الفكرة لم تر النور.

ثم فكر عباس الأول فى عام ١٢٦٥هـ فى مشروع لتوزيع المياه باستعمال الآلات الرافعة، وتوزيعها بالمواسير داخل القاهرة، وكلف المهندسين بدراسة الفكرة، ولما أخبروه بأن المشروع يتكلف ١٣٠ ألف جنيه رفض التنفيذ بسبب تكاليفها العالية، وطلب تأجيل المشروع.

ولما تولى إسماعيل الحكم كلف به شركة مساهمة، فقامت بتنفيذه بواسطة شركة الماء والغاز، وبدأ توزيع المياه فى القاهرة وضواحيها، وفى عهد ابنه الخديو توفيق بلغت كمية المياه الموزعة بالقاهرة ١٠ ملايين و٧٦٤ ألفًا و٥٨٠ مترًا مكعبًا سنويًا، وبلغ طول المواسير الناقلة للمياه حوالى ١٥٠ ألف متر من الحديد الزهر بالشوارع والحارات.

وقد بدأت شركة توزيع المياه عملها، بعد أن صرح لها إسماعيل بالعمل كشركة مساهمة يوم ١٧ مايو ١٨٦٥م، أى بعد عامين فقط من توليه حكم مصر. وفى ١٤ يونيو ١٨٨٠م امتد نشاط الشركة إلى أسيوط، وفى ٥ أبريل ١٨٨٨ امتد نشاطها إلى حلوان، وهى الشركة التى عرفت باسم: شركة مياه القاهرة.

وكانت البداية عندما منح الخديو إسماعيل امتياز ضخ المياه إلى مسيو كوردييه فى مايو ١٨٦٥م، وتولت الشركة إقامة أول محطة لضخ المياه بالقرب من قصر العينى عند فم الخليج- أى المنطقة نفسها التى كان يبدأ من عندها نظام نقل المياه- عبر سور العيون- إلى القلعة، وهو المكان نفسه الذى كان يبدأ من عنده خليج أمير المؤمنين.. الخليج المصرى بعد ذلك!

وفى كتاب إسماعيل كما تصوره الوثائق الرسمية، الذى صدر بمناسبة مرور ٥٠ عامًا على وفاة الخديو إسماعيل «١٨٩٥ - ١٩٤٥»، وصف كامل لكيفية إدخال نظام توزيع المياه للعاصمة، يقول تحت عنوان «المياه الجارية فى القاهرة»: يشمل نظام توزيع المياه فى القاهرة منشأة رئيسية فى جهة معمل البارود على طريق مصر القديمة، يوفر الماء إلى داخل المدينة كلها، بما فيها القلعة والأحياء العالية، ومنشأة مساعدة فى بولاق تمت فى سنة ١٨٧١م، توزع الماء للأحياء الواطئة وتقوم بحاجة الرش، وخزان كبير فى العباسية تم إنشاؤه عام ١٨٧٢م طاقة أحواضه ومرشحاته ٣٠ ألف متر مكعب، وهو يستمد الماء من منشأة بولاق، ويوزعها على الأحياء المجاورة.

وفى ٢٣ شعبان ١٢٩٠هـ - ١٨٧٣م، أصدر الخديو إسماعيل أمرًا كريمًا، تعالوا نقرأه لنعرف أن كثيرًا من تكاليف هذه المشروعات تحملها الخديو إسماعيل من أمواله الخاصة.

يقول الأمر الخديو الكريم:

«بما أن معظم سكان القاهرة يتمونون بالماء من حنفيات شركة الماء لسهولة ورخص ثمنه، ونظرًا إلى أن المياه التى يستهلكها الجمهور تجلب إلى المدينة من ترعة الإسماعيلية، لا من النيل الأصلى بواسطة وابورات الشركة المركبة فيها، وطبيعى أن ماء الترعة المذكورة ليس كماء النيل لا فى اللذة، ولا فى الجودة، وحيث إن الماء الذى يستهلكه عامة الشعب من المرافق العامة الضرورية، التى لها أبلغ الأثر فى الصحة العمومية، وبناء على ما هو ملتزم لدينا من أن يكون الشعب مستريحًا مطمئنًا من ناحية استهلاك الماء، فهذه الاعتبارات كلها كانت قد أوجبت البحث عن طريقة تضمن للأهلين الحصول على حاجتهم المائية بيسر وسهولة، فكنا أصدرنا إلى حضرتكم أوامرنا وتعليماتنا فى هذا الصدد».

«وقد علمنا مما عرضتموه أخيرًا، أنكم بناء على أوامرنا قد درستم الموضوع، فظهر أنه وإن كان من الممكن تحقيق الغرض الذى ننشده بحفر قناة بين النقطة التى ركبت فيها وابورات الشركة وبين النيل وتركيب وابور فى فم القناة عند اللزوم، إلا أن هذه العملية تحتاج إلى وقت طويل، مع أن الحالة القائمة الآن تتطلب إيجاد حل سريع عاجل، لذلك اقترحتم أنه ريثما يتم مشروع حفر القناة، إذا ركبت الآن الوابورات بصفة مؤقتة، فأوصل بواسطتها ماء النيل إلى آبار الشركة، بهذه الطريقة تتحسن المياه، بيد أن هذه العمليات، سواء كانت تشغيل الوابورات المؤقتة وتركيبها أو حفر القناة المشار إليها فيما بعد، تحتاج إلى تكاليف تقدر بخمسمائة وخمسين ألف فرنك، مع العلم أن الشركة ليس عندها المال فى الوقت الحاضر، فلا تقدر على تحقيق مشروعات فوق العادة من هذا القبيل».

«نعم علمنا هذا، ونشعركم بما أن إرادتنا تقتضى أن يوفر للشعب الماء الذى يعد من المرافق العامة الضرورية، على أن يكون جيدًا سهل التناول، فقد رأينا أن تقوم دائرتنا بصرف النفقات اللازمة للعمليات التى أشرتم إليها، وحيث إن لدائرتنا فى صندوق الشركة ١٢٠٠ حصة، كل حصة قيمتها ٥٠٠ فرنك، فتكفى ١١٠٠ حصة منها لتكاليف العمليات المارة الذكر. وإنى تنازلت عن هذه الحصص إلى الشركة بشرط أن تنفق قيمتها للعمليات المذكورة، وإذا علمتم ذلك فعليكم بالعمل على صرف هذه المبالغ التى اختيرت لتوفير الراحة والرفاهية للشعب، على العمليات المتقدمة الذكر خاصة، وبذل الهمة والمساعى لتحقيق الغرض المنشود، كما أمر الخديو أن تتحمل الحكومة تكاليف تركيب المواسير والحنفيات المخصصة لرش الطرق..».

هذا عن توفير مياه الشرب الصحية لسكان القاهرة، فماذا عن إنارة القاهرة..

لتلك حكاية أخرى..

 

فى ١٥ فبراير ١٨٦٥م، منحت الحكومة المصرية مسيو شارل ليبون امتيازًا لإنارة القاهرة بالغاز، على غرار الامتياز الذى حصل عليه قبل ذلك لإنارة مدينة الإسكندرية، وجاء امتياز القاهرة لمدة ٧٥ عامًا، على أن يقوم مسيو شارل ليبون بجميع الأعمال اللازمة لإنشاء مصنع للغاز ووضع الأنابيب اللازمة بمدينة القاهرة وتوابعها «بولاق ومصر القديمة»، وذلك تحت مسئوليته.

وبعد عامين تقريبًا، أى فى أبريل ١٨٦٧م، كان ميدان باب الحديد قد أضىء بالغاز احتفالًا بدخوله كخدمة عامة. ومن بين الأماكن التى أضيئت منطقة الأزبكية، وهى الإسماعيلية «التحرير والمنطقة بين التحرير الآن وشارع ٢٦ يوليو» والشوارع الكبيرة وقصور الخديو.

وقد تم وضع المواسير- أنابيب الغاز- بداية من المصنع الذى أقيم فى السبتية ببولاق. وفى الليلة السادسة من هذا الشهر الإفرنكى «٦ مايو ١٨٦٨» نوّر باب الضبطية- مقر المحافظة- على مشارف ميدان العتبة وما جاورها، وبهذا سيعم الإشراق!! وتكون هذه أول مرة دخل على الأهالى بالفرح والسرور، واجتمعوا للتفرج عليه من كل مكان، داعين لجناب الخديو المعظم ببقائه غرة فى جبهة الزمان. وفى مايو ١٨٦٩م أصدر الخديو إسماعيل أمرًا بتوصيل الغاز وتنوير الشوارع بالغاز إلى الشوارع الجديدة وكذلك عمل أثمان البيوت والعمليات اللازمة لفتح سكة (شارع) محمد على وسكة فؤاد والسكة الموصلة من الأزبكية إلى باب الحديد.. والسكة المارة من الفجالة لباب الحسينية، والخرابة المار فيها شارع محمد على وشارع عبدالعزيز يعمل فيها سويقة لبيع الأشياء المعتاد مبيعها فى أمثال ذلك بأوروبا، بحيث تكون فى غاية النظام!!

وهذه السويقة المقصودة هى سوق ميدان العتبة الحالية على يمين أول شارع الأزهر، فقد رأى إسماعيل أسواق باريس، فقرر بناء سوق على هيئتها هى السوق التى ما زالت قائمة حتى الآن، وعلى غرارها تم بناء سوق أخرى فى ميدان باب اللوق.. وأصدر الخديو أمرًا بتوصيل المياه والغاز من شركة ليبون لإنارة السوق وتوفير النظافة لها محافظة على الصحة العامة.. وكان هذا فى عام ١٨٦٩م!!

وكما حدث فى مشكلة توصيل المياه، تدخل الخديو إسماعيل لإنقاذ شركة ليبون للغاز، ففى ١٧ أبريل ١٨٦٦م علم الخديو أن الشركة تواجه مشاكل فى الحصول على قطعة أرض، تلائم حاجة المشروع، فقرر إسماعيل منح الشركة قطعة أرض من أملاك الحكومة على مشارف المدينة.

وفى ٣١ مارس ١٨٧٠م تم نشر عقد الامتياز للإنارة بالغاز فى مدينة القاهرة، وجاء فى المقدمة «قد خص سمو الوالى للمسيو شارل ليبون، صاحب امتياز الإنارة بالغاز فى مدينة الإسكندرية، فى أن يقوم بجميع الأعمال اللازمة لإنشاء مصنع للغاز ووضع الأنابيب (مد الأنابيب تحت الشوارع) اللازمة بمدينة القاهرة وتوابعها (بولاق - مصر القديمة) وذلك تحت مسئوليته».

وتطورت عملية إنارة القاهرة سريعًا.. حتى إنه فى عام ١٨٨٢م كان هناك حوالى ٢٥٠٠ فانوس تضىء ٧٠ كيلومترًا من الشوارع، وفى أيام الخديو توفيق كان عدد الفوانيس الموزعة ٢٨٠١ فانوس منها بالإسماعيلية «الحى» والأزبكية والفجالة وعابدين الثلثان، والباقى داخل البلد.

واستمرت خدمات شركات الغاز، لتوصيل غاز الاستصباح لاستهلاك القاهرة. مع توفيره ليس فقط للإنارة ولكن لاستخدام المنازل والمطابخ. وكانت شبكة هذا الغاز- أو ما بقى منها- تمتد فى الزمالك وجاردن سيتى. وما زال الكثير من قصور القاهرة وشركاتها تستعمل هذا الغاز، حتى بعد أن تم تأميم شركة ليبون فى أعقاب العدوان الثلاثى على مصر عام ١٩٥٦.

من كتاب «أحياء القاهرة المحروسة»