رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أن تموت محبوبًا

ينقضي العمر سريعًا ونفقد أحبة وأقارب وأصدقاء وزملاء ورفاق مسيرة، وغدًا سنلحق بغيرنا ونترك للباقين الفرصة ليحكموا علينا أو لنا، وها نحن نرى حالات الوفاة حولنا تتوالى، وملك الموت لا يأتي بموعد ولا يحدد سنًا معينة ولا يتخير فئة ولا ينتقي طبقة اجتماعية بعينها. فالكل آت موعده وقتما يحدد المولى ويختار.
غير أن هناك من البشر من يطول عمره حتى بعد موته، فالسيرة أطول من العمر، هناك من مات فشيّعته لعنات الناس وسيئ الذكريات، بل وهناك من تجده قد مات حيًا، يبغضه الناس وإن نافقوه بادّعاء غير ذلك، ويلعنونه بقلوبهم وإن تمتمت ألسنتهم بالدعاء له في وجهه وعلى النقيض تمامًا تجد أناسًا رحلوا وقد ظلت سيرتهم عطرًا للمجالس حتى بعد الرحيل، نذكرهم فنتذكر ابتسامتهم الصافية أو كلامهم الطيب أو عظيم مواقفهم، هم يرحلون جسدًا لكن ما تركوه من سيرة حسنة تجعلنا لا نصدق أنهم مضوا عن دنيانا وسبقونا إلى دار الحق.
لا أقول مجرد شعارات تأثرًا بموت قريب أو صديق أو زميل، فلو أنك راجعت في دفتر ذكرياتك سيرة من رحلوا ستجد أشخاصًا تجسد ذكرياتك معهم ما أقول، فكم من راحل وجدته يقف في ظهرك مساندًا وداعمًا حين خذلك الجميع، وكم من متوفى كانت كلماته المناصرة لك خير معين في حرب وضعوك فيها ولم تجد في جيوشك التي كنت تظنها مؤهلة للدفاع عنك، بل والهجوم على عدوك إلا هو جنديًا وخطيبًا ومحاميًا بلا أجر ولا مثوبة غير مزيد من المحبة والود.
أعي تمامًا صعوبة ترضية الناس جميعًا وكسب محبتهم ونيل ثقتهم والتمتع بودهم، لكن لا ضير من مجرد المحاولة، ابذل مجهودًا في سبيل تحقيق هذا والتمس أجره من الله. على أن نجتهد أيضًا ألا يكون ودنا مع الآخرين بفعل أو قول يجلب سخط المولى عز وجل، وتذكر مقولة لجلال الدين الرومي جاء نصها في كتاب (بحار الحب عند الصوفية) للكاتب المتصوف الراحل أحمد بهجت: "ليس لكل أحد أن يكون محبوبًا فالمحبوب يحتاج إلي صفات وفضائل لا يرزقها كل إنسان، ولكن لكل إنسان أن يأخذ نصيبه في الحب، وينعم به فإذا فاتك يا سيدي أن تكون محبوبًا فلا يفتك أن تكون محبًا، وإن لم يكن من حظك أن تكون يوسف فمن يمنعك أن تكون يعقوب، ولو عرف المحبون ما ينعم به العشاق المتيمون لتمنوا مكانهم وخرجوا من صف المحبوبين السعداء إلي صف المحبين البؤساء".
أوقن تمامًا أن ليس للقلب أن يختار من يحب، فقد يشقيك حبك بعشق ضال أو فاسد وهنا عليك أن تراقب حساباتك مع نفسك فقديمًا قالوا: الطيور على أشكالها تقع، فلو أن قلبك تيم بأمثال هؤلاء فأنت- للأسف- مثلهم ولكن كيف لك التمييز في حالة كتلك، وقد صدق الشاعر حين قال: وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ.. وَلَكِنَّ عَينَ السخطِ تُبدي المَساوِيا.
في تلك الحالة لا أجد لك إلا أن تدعو الله تعالى بالدعاء المأثور: "اللهم إني أسألك حبّك، وحبّ من يحبّك، وحبّ عمل يقربني إلى حبّك. اللهم ما رزقتني مما أحبّ، فاجعله قوّة لي فيما تحبُّ، وما زويت عنّي مما أحبّ، فاجعله فراغًا لي فيما تحبّ. اللهم اجعل حبّك أحب إلي من أهلي ومالي، ومن الماء البارد على الظمأ. اللهم حبّبني إليك، وإلى ملائكتك، وأنبيائك، ورسلك، وعبادك الصالحين".
راودتني تلك المشاعر حول حديث المحبة بعد تشييعنا لجنازة الزميل الراحل ولاء عسكر نائب رئيس الإذاعة المصرية والذي لبّى نداء ربه مطلع الأسبوع، رحل الرجل وقد ترك سيرة تخلده، وحبًا غمر قلوب من عرفوه وحزنًا أثّر فيمن التقوا به حتى و لو لقاءً عابرًا، كان الرجل نموذجًا للتسامح والمودة فقد تحمّل الكل وصاحب الجميع وسعى في تلبية حاجات الكثيرين. ربما عرفنا عن تواضعه وحسن خلقه مع من عرفوه، لكننا لم نكن نعرف عن الخير الذي يوزعه أينما مضى إلا النذر اليسير وما سمعناه من مرءوسيه عنه بعد رحيله يؤكد كم كان الرجل خيّرًا ونبيلًا فكان محبًا ومحبوبًا من كل من تعاملوا معه.
وهنا أدركت وتثبّت يقيني أن المحبة هي الأبقى والأطول عمرًا وأن أساليب البشر في إدارة غيرهم كثيرة، لكن الرضا هو الذي يحقق أهداف المؤسسات سواء كانت أسرة أو مكان عمل، وكان الله في عون كل رئيس منظومة عمل تفتقد إلى روح المحبة والرضا، وكل رب أسرة تخلو من هذه العاطفة الإنسانية. والرضا الوظيفي- كما يقول علماء الإدارة- يخلق حماسًا ثم ولاءً ثم تعاونًا ينتهي بالاستعداد للتضحية في سبيل ذلك الكيان الذي يعمل فيه المرء، وما أسهل أن تحسم المواقف مع مرءوسيك بالعقوبات والتحقيقات والجزاءات، ولكن هل يكون المردود النهائي في صالح العمل؟ أشك تمامًا.
وليس معنى كلامي أن نتساهل مع المقصرين أو أن نتغاضى عن إهمال المهملين في أداء المهام المكلفين بها.
فأمثال هؤلاء يفرضون عليك أن تكون حاسمًا معهم ليصححوا أخطاءهم، بل وليرتدع غيرهم، الأمر يتعلق إذن بحكمة بالغة يفرضها الموقف الذي يشي بأسلوب تعامل الرئيس مع المقصر من المرءوسين فإما الردع التام والحسم باللوائح والقوانين، وإما التسامح أملًا في عدم تكرار الخطأ، والأولى أن نبادر إلى دعم رموز المحبة التي هي مفتاح النجاح في منظومات العمل وداخل الأسر وفي الدول بصفة عامة.