رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الخلاص من الكلام الجاهز

كنا، نحن المصريين، لا نتكلم إلا من ألسنتنا، وكلامنا كان منبعه القلوب، جرى ما جرى، وصرنا نستخدم كلاما جاهزا كالآخرين، لوحات مكتوبة ومنسوب ما فيها إلى فلان أو فلانة، وقد لا تكون النسبة صحيحة، وقد لا يكون الكلام من أساسه منطقيا ولا مهما، إلا أننا صرنا نحتفي بهذه اللوحات كغيرنا، ولم يعد كلامنا من ألسنتنا ولا قلوبنا!
أكثر هذا الكلام الجاهز المنتشر يكون لمشايخ أو أدباء أو فلاسفة، ويحوي أحيانا أخطاء إملائية جسيمة، ينقله من ينقله بأخطائه للأسف، ويحوي أحيانا نقائض لحضارتنا الراسخة، ولكن الناقل لا يراعي الفروق لافتتانه بالكلام الذي عادة ما يكون موزونا أو مسجوعا، ومزوقا ومنمقا، وقد يكون غامضا أيضا فيزيد من فتنة المفتون به، ويا للعجب، ولا يثنيه عن الانسياق خلفه؛ بل يثبته عنده كما هو، كمن يقول للناس بأريحية منكرة: هذا هو الكلام؛ فاتبعوه!
حرمنا هذا الكلام الجاهز من تعبيراتنا الشخصية، ومهما يكن بعضها بسيطا فإنها أصدق، بالجملة، وأدق في عكس أحوالنا للآخرين، كما أن هذا الكلام الذي أعده من أعده في الكواليس ثم ألقاه للراغبين والغافلين، مغريا بالتصديق، لغرض ما؛ لا يثيبنا تطورا فمعظمه تقليدي محض، وإن لم يكن تقليديا محضا فإنه يكرس للحفظ لا الفهم، ولا يدعو إلى العمل مقدار ما يدعو إلى الكسل، حتى لو كان يحث على النشاط؛ فالناس سيغرقون في تأمله وحصاد منطوقه لا مفهومه، ليتباهوا بمثله في الاجتماعات، ولن يستيقظوا من نومهم بسببه، ولن يتحركوا من أماكنهم مراعاة له، ولن يتقدموا إلى الأمام ولو خطوة لأنه أمرهم بمثل هذا التقدم!
لن نستطيع إلغاء اللوحات التي تضم كلاما جاهزا، ولا هذا هو المطلوب أصلا، والإلغاء عموما فكرة قاسية يجب أن تكون طباعنا نقيضا لها، كما أن هذه اللوحات، قديمها وجديدها، يمكنها مساعدتنا في التأريخ لفترتنا المجانية المؤسفة التي باتت تعتمد على كل شيء معد ولا تجتهد في ابتكار ما يخصها، والمراد أن نفكر بجدية فيما تتضمنه قبل أن نتسبب في ذيوعه فنؤذي به لاحتمالية كمون الضرر فيه، وألا نجعل مشتملاتها بديلا لكلامنا الذي من أعماقنا؛ فكلامنا، أيا ما كان، ليس كمثله كلام يضع ظروفنا الشخصية والعامة في مواضعها المضبوطة.. أنا أشعر بأننا نفقد أنفسنا وهويتنا في مقابل حرصنا على هذه الكلمات الجاهزة 
التي تشبه السلع المعلبة مجهولة المصادر!
أرى في فشوها المريب خطرا هائلا، وأراها مقصودة للتغييب، كما أنني أستغرب مدمنيها، وهم وفرة، لأن في الإقبال على قراءة الكتب وفي التركيز على الحياة نفسها ما فيهما من خلاصات التجارب الكبيرة النافعة.
ألسنتنا هي الحل، وحبذا لو صدر الكلام من قلوبنا طبعا، وأما الكلام الجاهز، مع تقدير لبعضه، فليس آمنا بالمرة!