رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الثائر الغبى!

يقال، في بعض الحكايات الأسطورية، إن الدُّبَّة قتلت صاحبها، وجدت على أنفه ذبابة أرادت أن تدفعها عنه؛ فخبطت وجهه بيدها القوية خبطة واحدة ومات!

هذاك هو الثائر الغبي بالضبط.. يجد شيئًا لا يعجبه فيقرر الخلاص منه على طريقة تلك الدُّبَّة الأسطورة.. لا يدعو إلى إصلاح الوضع الذي يراه سيئًا بل إلى الثورة العارمة الشاملة.. حشد الحشود وملء الميادين.. الهتافات الصاخبة المتصاعدة والاشتباك مع رجال الأمن وحراس البلاد.. يترك بيته ويقيم في الشارع منتظرًا أن تنفرج الأمور كما يريد وتتحقق الأحلام كما يرجو، ولو وقعت الدولة التي يبغي محو خطئها الذي يراه واضحًا، وقد لا يراه غيره بالمناسبة، في مآزق شتى بسبب اندفاعه وتهوره فإنه لا يبالي، ولكنه يمعن في مطالبه الآخذة في النمو المعقد، ومع الوقت يصير مجنونًا بخواطره؛ فكل نقيض لها هو نقيض للحق نفسه، وقد يتحالف مع الشيطان، من أجل إنفاذ ما خطه في الأوراق التي تتضاعف بجعبته كلما أشرقت شمس يوم جديد، وقد يضع يده في أيدي الغرباء المتربصين الطامعين.. 
نحن نعاني من ذلك الأنموذج المحير الذي أدمن التمرد منذ يناير 2011.. نعاني معاناة لا مثيل لها، ولا أحب أن نختلف حول هذه المسألة فاختلافنا حولها نقمة مقصودة.. ويصح أننا نتمهل فلا نصف مثله بقليل الوطنية، مع أن أفعاله وما يترتب عليها من الآثار، لا تعكس وطنية ذكية، هي التي يجب أن يتحلى بها الإنسان الذي ينشد وطنًا أكمل وأجمل.  
العالم الخائب الذي يكيل بمكيالين يسجل علينا ملحوظات سلبية لأننا لم نذعن لذلك الأنموذج العجيب المريب، لم نثمن سعيه ولم ننسحق أمام صراخه المتواصل، والمتأمل النبيل النبيه للمشهد، مشهد صاحبنا الغوي المغرور، عليه أن يسأل نفسه سؤالين اثنين في الأدنى، قد يكون في الإجابة عنهما أو عن أحدهما فهم حالته المقلقة، أو قد يكون الفهم كامنًا في قلبيهما:
هل الثورة، بحد ذاتها، غاية؟
بينما أقمع الآخرين؛ كيف أكون حرًا؟
هكذا؛ لأن صاحبنا يثور ولا يهدأ، ولأنه يصف نفسه بالحر فإذا ما عارضه معارض ظهر منه سلوك خلاف الإيمان بحرية الآراء والتصورات!
لن يجري على أرض الوطن شيء معتبر ما دام ذلك الثائر مُصِرًّا على الغضب الشديد؛ فليس يروقه تغير حكم ولا تبدل حال؛ إنما "الثورة مستمرة"، كما يقول هو بلا دراية واعية بفحوى العبارة، والنتيجة فرقة ودمار، ولكن كأن عينيه لا تريان خبال توجهه..
كنت واحدًا من الذين نظروا إلى الأمر كله من بعيد، في أعقاب يناير 2011 بمسافة كافية، التقطت أنفاسي وابتعدت عن الدائرة الفوارة التي تشوش الأفكار؛ فوجدت الخطر محدقًا بالوطن إذ وجدت السفينة في بؤرة غرق، والغوغاء لا يعرفون البحر معرفة تبشر بخير واحد!