رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإبداع فى الفن والعلم

وعلى سبيل المثال، فإن مصر قبل الثورة والتى صورها لنا نجيب محفوظ هى مزيج من حقيقة مصر النسبية ورؤى وتصورات وذكريات نجيب محفوظ، هى جماع الحقيقة والذات المبدعة فى وحدة واحدة، لذلك هى تختلف تمامًا عن مصر التى صورها ألبير قصيرى فى قصصه ولم يرَ فيها سوى المطحونين والمهمشين المقضى عليهم بالانسحاق.

وهنا كانت مصر مزيجًا من الحقيقة النسبية ومن التكوين الذاتى للفنان، على حين سنرى صورة مختلفة لدى عبدالرحمن الشرقاوى فى روايته «الأرض»، حيث تتجلى مصر التى تقاوم وتنتفض وترفع رأسها ثائرة، هذا لأن الفن مزيج من تكوين الكاتب والحقيقة، من تفاعل الذات مع الواقع.

وربما كتب أحدهم رواية مثل «الحرب والسلام» لصاحبها تولستوى، ولو أن كاتبًا آخر كتب نفس الأحداث لخرجت لنا رواية أخرى، بحقيقة أخرى، لأن الكاتب وتكوينه ورؤاه مختلف، ولأن الاكتشافات الفنية لا تكتمل إلا فى ارتباط وثيق بطبيعة المبدع الفكرية والشعورية.

وإذا كان الفنانون مبدعين، فإن العلماء أيضًا مبدعون من نوع آخر، وإلا ما قال أينشتاين: «الخيال أهم من المعرفة أحيانًا».

العلماء مبدعون على طريقتهم التى تختلف عن طرق الفنانين، ولنقل على سبيل المثال إن نيوتن كان مبدعًا حين اكتشف القانون القائل بأن «لكل فعل رد فعل مساوٍ له فى القوة ومعاكس له فى الاتجاه»، لكن تكوين نيوتن الذاتى الشخصى لا يؤثر فى طبيعة ذلك القانون، ولا يغير القانون، سواء أكان نيوتن إنسانًا مرهفًا أو قاسيًا، صلبًا أو لينًا، ذلك أن التكوين الذاتى للعالم لا يمس الحقيقة ولا يبدلها.

وفى اختلاف المجرى الإبداعى عند العلماء والفنانين يكمن الفارق الجذرى بين المبدعين، حتى إن عالمًا شهيرًا هو إيفان بافلوف، الحائز على نوبل، قسّم الناس إلى «مفكرين ومبدعين»، على أساس أن المبدعين من المفكرين يتسمون بالتفكير المنطقى، والمبدعين يتسمون بخواص نفسية أخرى فى استقبال العالم وإعادة إنتاجه.

الحقائق التى يتناولها الكتاب قد تتغير حتى أثناء عملهم، ولهذا قال بوشكين: «لقد خدعتنى تاتيانا وتزوجت»، يقصد أنه فوجئ أثناء الكتابة بغير ما خطط له، أما فى العلم فإن الحقيقة تبقى كما هى كامنة لا تتغير إلى أن يكتشفها عالم آخر، ويقول لنا إن الأجسام الصلبة تتمدد بالحرارة وتنكمش بالبرودة.

الفارق الرئيسى بين مجالى الإبداع يكمن فى اختلاف النهج الإبداعى عند الفنانين عنه عند العلماء، إلا أن الطرفين يلتقيان فى أنهما يكتشفان القوانين العامة، العلماء يضعون أياديهم على قوانين الطبيعة، والفنانون يضعون أياديهم على قوانين الروح والعلاقات الإنسانية.

سيتوصل العلماء إلى أن كل تغير كمى يؤدى إلى تغير نوعى، وهذا قانون عام، وسيكتشف الأدب بقلم دوستويفسكى أن الكراهية تنبع من نفس منطقة المحبة فى الروح الإنسانية، ولهذا استعان عالم النفس فرويد بالكثير من القوانين العامة التى اكتشفها دوستويفسكى، وحين يكتب تشيخوف قصة «البدين والنحيف» فإنه يقدم لنا قانونًا عامًا مفاده أن مأساة المجتمع ليست فى قوة الأثرياء وبطشهم بل هى أيضًا فى ضعف الخانعين واستسلامهم، وهذا أيضًا قانون عام يقدمه الأدب، مثلما يقدم العلم القانون القائل بأن «حاصل ضرب أى عدد موجب مع أى عدد سالب يكون سالبًا».

يكتشف الفن والعلم القوانين العامة التى تحكم الطبيعة والنفس البشرية، لكن كل بطريقته، وعبر مجرى إبداعى خاص به، وإذا كنا فى العلم بحاجة إلى الوعى، فإننا فى الفن بحاجة إلى الوعى واللاوعى، مما يجعل من الفن حصيلة جمع إحساس الكاتب والواقع، جمع رؤى الفنان الفكرية والحقيقة.