رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إحسان عبدالقدوس وعباس صالح.. مرة أخرى

مقاييس الجودة الفنية دائمًا تتعرض للملابسات والإشكاليات، قد يعجب أحدهم بعمل ويرفضه الآخر فى الوقت نفسه، وظاهرة إحسان عبدالقدوس تستحق الدراسة، فهو واسع الانتشار، وغزير الإنتاج، وقصصه مادة للدراما السينمائية لا تنضب، وبالرغم من هذا الرواج، فإن إحسان كان- وما زال- قليل البخت بالنسبة للكتابات النقدية، والصديق الكاتب الصحفى اللامع وائل لطفى أرجع هذا إلى تحامل النقاد اليساريين عليه، لأنه لم يكن يساريًا، ودلل الأستاذ وائل لطفى على ما يقول بالموقف الذى اتخذه النقاد اليساريون- وعلى رأسهم د. عبدالعظيم أنيس ومحمود أمين العالم- حينما تجاهلا إحسان، وتبنيا قصاصًا يساريًا تابعًا لأيديولوجيتهما السياسية وربما للتنظيم نفسه، فقد راهنا على القاص محمد صدقى وأطلقا عليه جوركى مصر، وهذا صحيح، وخاب الرهان، فقد أسقطت الأيام محمد صدقى، وبقى- والكلام ما زال لوائل لطفى- إحسان بقصصه وبأفلامه، هذا كان فى الخمسينيات ومطلع الستينيات، وكلاهما غاب عن النقد، فقد دخلا المعتقل عام ١٩٥٩، ولقد كتب الروائى الكبير فتحى غانم، وكان يكتب عمودًا فى مجلة آخر ساعة بعنوان «أدب وقلة أدب»، أن محمود أمين العالم ود. عبدالعظيم أنيس طلبا منه صراحة أن يروج معهما لمحمد صدقى، فرفض فتحى غانم، وقد رأى محمد صدقى كاتبًا ضعيفًا ولا يستحق، فعاقبا فتحى غانم بتجاهل أعماله القصصية تجاهلًا تامًا، وهذا جزء من الحقيقة، لكن بقية الحقيقة هى لماذا لم يكتب عن إحسان بقية النقاد؟ من اليمينيين ومن المعتدلين ومن جيلهما ومن الأجيال اللاحقة، المدهش أن إحسان تجاهله لويس عوض وأنور المعداوى وعلى الراعى ورشاد رشدى وفاروق عبدالقادر وغالى شكرى وإبراهيم فتحى وسيد حامد النساج وشكرى عياد وصلاح فضل.. وغيرهم وغيرهم.

كل هذا بسبب رأى الكاتب أحمد عباس صالح الذى كتب فى مذكراته- عمر من العواصف- أنه يرى إحسان أديبًا محدود القيمة، ولحسن الحظ عثرت على المقالة التى كتبها أحمد عباس صالح عن إحسان والتى تسببت فى غضب إحسان عليه، ونشرت المقالة فى مجلة الرسالة الجديدة الشهرية، وكان رئيس تحريرها يوسف السباعى، والمقال بعنوان «حول كتاب أين عمرى- أدب إحسان عبدالقدوس» ويعترف فيه الناقد بأن إحسان يستطيع أن يسيطر على قرائه، وتستمر سيطرته عليهم بعد الانتهاء من القراءة، ويعترف بأن توزيع كتب إحسان تتفوق على كتب نجيب محفوظ والحكيم وطه حسين الذين ينشرون أعمالهم فى نفس دار النشر التى تنشر كتب إحسان، ووصف عباس صالح إحسان بأنه كاتب الطبقة الوسطى التى تجد نفسها فى قصصه، كل هذا ثناء ومديح، وهو يكتب عن الحب، وهو مجال تتعطش الطبقة المتوسطة لتراه وتعرفه وتتناوله، وكل هذا جميل، أما الذى أغضب إحسان من المقالة، أن إحسان لا يعتنى باللغة، واللغة هى الإناء الذى يحمل المعنى، فهل لو وضعت جواهر فى إناء رخيص معتم مضبب فهل ستظهر نفاسة المجوهرات؟ وهى نفس الملاحظة التى رصدها يحيى حقى عندما تناول إحسان عبدالقدوس بالنقد، وكتب عنه فى كتاب «خطوات فى النقد» أن إحسان رواياته أشبه بمعبد للحب، ويقوم إحسان بدور الكاهن الأكبر فى هذا المعبد، وديانة معبد إحسان ساحرة وناعمة وجميلة، وكلماته شبهها يحيى حقى بأنها مثل البالونات الملونة التى تتطاير فى الفضاء، وتعلو وتعلو وتطير، ويقول يحيى حقى بلباقته المعهودة إنه كان يتمنى أن يجعلها تهبط إلى الأرض التى نعيش عليها، ويقدم يحيى حقى نموذجًا للغة المتطايرة فى معبد إحسان الوردى، فيكتب فى الوسادة الخالية «ونظر إليها كما نظر إليها لأول مرة، كان كل شىء فيها يتنهد برقة وضعف، عيناها الواسعتان تتنهدان، وشفتاها المكتنزتان تتنهدان، ووجنتاها العاليتان تتنهدان، ولم ينظر إلى صدرها البكر ليرى أنه لم يكن يتنهد... كان يلهث» ويعيب أحمد عباس صالح على إحسان أنه لا يتناول سوى الحب، مع أن الحب بين الرجل والمرأة ليس إلا وجهًا من وجوه الحياة، أما الحياة نفسها فهى غنية وثرية ومتعددة النواحى والجوانب.

ويكتب أحمد عباس صالح أن الصحفى داخل إحسان يتغلب على إحسان الأديب، فلا يفكر كثيرًا فى شخصياته ولا يتأملهم، وأنا أتفق مع عباس صالح فى ذلك، فعلى سبيل المثال فى نفس القصة «الوسادة الخالية» نجد صلاح يفشل فى الزواج من سميحة، وإذا بنا نراه وقد ركز فى العمل فأصبح مديرًا للشركة فجأة وخلال صفحة واحدة!، هل صعود المواطن المصرى بهذه السهولة التى تصل إلى الخفة!؟ أنظر إلى صعود يوسف عبدالحميد السويفى بطل فتحى غانم فى «الرجل الذى فقد ظله»، وفى مضمار الحب الرومانسى نفسه، قارن بين بطل إحسان فى الوسادة الخالية كنموذج للمحب الرومانتيكى، ونموذج المحب الرومانسى عند نجيب محفوظ ممثلًا فى كمال أحمد عبدالجواد فى الثلاثية، وتشببه بـ«المعبودة» عايدة، وكيف مشى فى جنازتها وهو لا يعلم أنه يزف المعبودة إلى قبرها، واللغة الرصينة التى تحاكى الشعر والتى يكتبها محفوظ على لسان بطله المعذب، ويعزو أحمد عباس صالح عدم اعتناء إحسان بشخصياته، لأنه كان يكتب قصصه مسلسلة فى صباح الخير، فكان مضطرًا لمتابعة الكتابة على وجه السرعة التى تأتى على حساب التنقيح والتجويد بالصبر والدأب.

وسوف أقارن بين عملين روائيين وقد استلهمهما الكاتبان من واقعة حقيقية هزت مصر، والواقعة هى مقتل أمين عثمان وزير المالية فى عام ١٩٤٦ على يد جماعة إرهابية كان يتزعمها حسين توفيق طالب السعيدية الثانوية الذى يسكن فى المعادى، جريمة القتل التى هزت مصر، كتبها إحسان رواية «فى بيتنا رجل»، وكتب الروائى الكبير فتحى غانم رائعته الخالدة «تلك الأيام» التى صدرت بعد رواية إحسان بعشر سنوات وربما أكثر.

فتحى غانم يقدم لنا الثالوث المقدس، الزوج المطعون فى شرفه، د. سالم عبيد أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة الذى نال جوائز الدولة الكاتب الشهير الذائع الصيت، والزوجة زينب التى تصغره بعشرين عامًا، والعشيق عمر النجار موظف الأرشيف الحالى الذى قتل منذ سنوات بعيدة رئيس الوزراء، وسالم عبيد يشك فى زوجته، ويشعر بكراهيتها الدفينة له، خروجها بدونه، غيابها الغامض خارج البيت وحدها، رائحة الرجال الذين يراهم سالم ولا يراهم، يراهم فى مكالمات التليفون التى لا تجيب عليه، وكما يجرى الباحث تجارب معملية، يجرى سالم اختبارًا ليضع زينب كأنها فأر سيجرى عليها تجربة حية، فيحضر لها الإرهابى السابق عمر النجار إلى البيت، بحجة أنه يعد دراسة تاريخية عن الاغتيال السياسى، سيأتى بالنار ويضعه إلى جوار البنزين، النار هى زينب والبنزين هو الإرهابى السابق عمر النجار، فسالم متأكد من أن زينب المستهترة تخونه، فهو يشم رائحة الخيانة فى رائحة البيرة والرجال فى ثيابها وفى شعرها، ستتعرف عن قرب على عمر النجار، وسيرى بعينيه خيانتها.

ولسنا بصدد تحليل الرواية، ولكن يهمنى هنا أولًا المحتوى السياسى للعمل، لقد تناول فتحى غانم عمر النجار باعتباره إرهابيًا وقاتلًا، وتعامل طيلة الرواية على هذا الأساس، عامله الكاتب كشخص مصمط بلا تجاويف ولا عواطف فهو قاتل فى البداية والنهاية، بينما تعامل إحسان مع بطله إبراهيم حمدى كبطل وكوطنى وتجاهل إحسان أن إبراهيم قتل مصريًا، بل جعله يبدو طيب القلب مخلصًا شهمًا، كيف يكون هذا، والقتل هو القتل، واعتمد فتحى غانم على مذكرات وسيم خالد، وهو واحد من مجموعة حسين توفيق، وساهم وسيم خالد فى عملية قتل أمين عثمان، وكتب وسيم خالد عن غرابة أطوار وخواء حسين توفيق العاطفى والوجدانى، وتتطابق شخصية حسين توفيق كما كتبها وسيم خالد مع شخصية عمر النجار فى تلك الأيام فيقول كلاهما «أنا قبل القتل لا شىء، وبعد القتل أنا لا شىء، لا أشعر بكينونتى إلا والطبنجة فى كفى والحياة لا تتحقق عندى إلا ساعة الضغط على الزناد» ووسيم خالد صاحب المذكرات يقول ذات يوم تظاهر حسين وهو فى القطار وقد جلس أبوه مع صديق للأب، سمع أباه يقول «انظر إلى كفه، هذا كف قاتل» هكذا كان عمر النجار يرى طبنجته وكفه وقد تطابقا، هكذا كان يرى حسين توفيق الطبنجة القاتلة، وسنقارن بما كان يراه إبراهيم حمدى بطل إحسان فى مسدسه، فيكتب إحسان «كان يعود فى آخر اليوم مسرع الخطى، ويدخل غرفته مباشرة ويغلق الباب على نفسه ويخرج المسدس من الدولاب ويضمه بين أصابعه فى شوق وفرحة، ثم يعبث به وكأنه يداعب حبيبته، ويفك أجزاءه كأنه يخلع عن حبيبته ثيابها، وبعد تدريب طويل أصبح يجيد ضرب النار، وفى المرات القليلة التى كان يخطئ فيها إصابة الهدف كان ينظر إلى المسدس فى لوم وعتاب ويقول له- كده برضه يا عزيزة؟ ويبتسم وكأن المسدس يقول له- معلهش الدور ده يا إبراهيم.

الأعمال الفنية لا يجوز الحكم فيها بأن هذا صح وذاك خطأ، فلسنا بصدد معادلة فيزيائية ولا مقياس لدينا للقياس بالجرام أو بالمتر، لكن الأدب والتاريخ يمكن الحكم فيهما، بأن هذه رؤية نصفها بأنها سطحية وتلك رؤية عميقة، وللأسف كانت رؤية إحسان عبدالقدوس وعناصر روايته تتسم بالخفة وبالرؤية السياسية الضحلة، أما رؤية فتحى غانم للواقعة نفسها فكانت رؤية عميقة ومركبة اعتمد فيها على تركيبات ديستيوفسكى وعلى فلسفة أوزوالد إشبنجلر الذى ورد ذكره فى الرواية، ورؤية فتحى غانم تجعلنا أكثر إنسانية وفهمًا للإنسان، فهو بإنسانيته الكبيرة جعلنا نتعاطف مع زينب رغم أنها خائنة، ونتعاطف مع سالم عبيد الزوج الذى غلبته الدنيا على أمره، ونتفهم أن عمر الترجمان مجرد قاتل كان يبحث عن أسباب لكى يقتل.