رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

متحيزون لاقتصاد متوهج باللون البرتقالى

يطل علينا نوفمبر من كل عام فيذكرنا أننا رغم الشوط الذي قطعناه إلا أننا مازلنا في منتصف الطريق لا نريد عودة للخلف، ولا نعرف متى سنصل لخط النهاية، كل ما نعرفه أنه ما زال أكثر من ثلثي النساء حول العالم يتعرضن للعنف بكل أشكاله، ولازالت حواء تثق أنها قادرة يومًا ما على إنهاء هذا الأمر برمته.
قد يتعجب البعض من إصرار النسوة على إنهاء حالة العنف تجاههن، متغافلين أو ناكرين بتعجبهم إحصائيات صريحة تذكر أن واحدة من كل ثلاث نساء قد تتعرض للعنف، أي يعني بتوضيح أكبر أن نحو 736 مليون امرأة تتعرض للعنف بكل أشكاله سواء جسديًا، أو جنسيًا أو أسريًا، وأن واحدة من كل 4 نساء تعرضن للعنف على يد الشريك في أعمار ما بين 15 إلى 24 عامًا، ولا عجب أن العنف يرافق هؤلاء النسوة منذ نعومة أظفارهم إلى أن يقضى الله أمرًا كان مفعولًا.
والأدهى هو توهم البعض أن حالات العنف تقل تدريجيًا، مستخدمًا في ذلك مغالطات منطقية ونماذج لحالات فردية تُنشر علنًا، وتكسب تعاطف واهتمام الرأي العام ولنزيدهم من الشعر بيتًا أنه كلما زادت الأزمات يا سادة كلما زاد العنف ضد النساء خلف كل باب، ووراء كل ستار وعلي يد أقرب قريب، فتزيد حالة الثلث لأكثر مع وجود أزمة، أو جائحة، أو تغير بيئي، ونحن نعيش عصر الأزمات بكل جوانبها، فمن الطبيعي أن النساء الآن هن من يدفعن الثمن أكثر وقد يتعرضن لكوارث ونقص احتياجات أساسية بجانب أنواع شتى من العنف الممارس عليهن.
وأكبر ما يدحض تلك الأوهام التي تسخر من مطالبات النساء بعالم يخلو من العنف، هو ذات السلاح الذي يستخدمونه لإيهام الآخرين بأننا كنسوة قد حصلنا على أكثر ما نستحق، الحوادث التي يستشهدون بها وبالاهتمام بها هي ذات الحوادث التي ثبت أن العنف تجاه النساء قد أصبح كعنقود فرطت حباته وخرج عن السيطرة من المجال الخاص وفي الخفاء لأقصى درجات العلن في مجالنا العام وشوارعنا ومؤسساتنا ودون خوف أو حياء.
والغريب في الأمر أن هذا العنف تكلفة وجوده هي أسوأ ما يمكن أن يحدث لأي مجتمع يريد أن يبني اقتصادًا قويًا، ويوجه أمواله لتشيد وطنًا وبناء الأفراد، لا أن يوجه موازناته ليرمم ويعالج ما يفعله أفراده بنسائهم، فوفقًا لإحصائيات تكلفة العنف الاقتصادي قد تتحمل الدولة ما يزيد على 8 مليارات جنيه من ميزانيتها لمعالجة ظاهرة وآثار العنف ضد المرأة، بل وتكلفها ما يعادل 200 ألف جنيه لعلاج مضاعفات الحمل نتيجة العنف الذي تتعرض له الزوجات، وتوجه نحو 571 مليونًا سنويًا لعلاج العنف ضد المرأة في الأماكن العامة، علاوة على أن نحو 2 مليون و288 ألف سيدة يعانين عاطفيًا نتيجه تعرضهن للعنف إضافة لتأثير ذلك على الصحة النفسية والحقوقية للطفل، فقد يعاني أطفال 300 ألف أسرة من مشكلات نفسية وكوابيس وخوف نتيجة رؤيتهم للعنف مع تغيب دراسي لأطفال ما يقرب من 113 ألف أسرة بسبب العنف الموجه للنساء.
كل ما سبق وما زال يظن البعض واهمًا أن من يعاني من العنف ضد المرأة هي المرأة وحدها، أو أنها من يدفع الثمن بشكل منفرد ولا داع من التدخل لقطع جذور العنف نهائيًا، أو قد يظن البعض أن الحديث عن تلك القضايا والالتفات لها أمر مبالغ فيه، في حين أن حقيقة الأمر أن تركها هو الأمر المبالغ فيه، لأننا جميعًا ندفع التكلفة يوميًا.
تكلفة قد تُدفع من أموال خزائننا، وتصيب اقتصادنا بالضعف في حين أننا في أمس الحاجة كل يوم لكل ما يدفع لعلاج ما يفعله العنف هنا وهناك، تكلفة قد تدفع من أذهان ونفوس نسائنا وفتياتنا وتزج بهن في غيبات أكثر ظلمة كلما ازداد عليهم الإيذاء، تكلفة قد تدفع من مصير ومستقبل أبنائنا يومًا بعد يوم وتنتقص من جودة شخصيتهم وصلابة نفسيتهم مع الأيام، تكلفة قد تدفع بجهد نفسي، وصحي، ومادي مضاعف من بعض رجالنا لتوفير مساحة أمان لنسائهن في المجال العام.
إذا من المنطق أن نعي أنه من أجلنا جميعًا، ومن أجل وطننا، ومن أجل أن ننقذ اقتصادنا ومستقبلنا وحاضرنا يجب أن نعي أننا جميعًا ندفع ثمنًا باهظًا، بل وجب ألا نخبئ رءوسنا في الرمال أو نتأفف من الحديث عن تلك القضايا، بل من الآن وصاعدًا يجب أن تُفتح جميع الأوراق على الطاولة ونعترف بوجودها، بل ونقف وقفة مع أنفسنا ونراقب سلوكنا ودوافعنا، وأن يكون كل شخص مقومًا لذاته ومناهضًا لظلمه نفسه، يجب أن نصدق النساء، ونساند الناجيات وندعمهن بدلًا من أن نلقي أخطاءنا وظلمة أنفسنا وسوء أفعالنا علي أكتافهن بدل المرة ثلاث مرات، أولاها يوم أن تعرضن للعنف، ومرة يوم أن لامهن المجتمع على أنهن السبب فيما تعرضن له، ومرة يوم أن طالبهن بالصمت أو التجاهل أو تحمل العنف ضد شكوى أو امتعاض.
فلنعلم أن جذور العنف ليست فقط في تراث يحمل في طياته الكثير من الاستلاب، ولا في موازين قوة مختلفة وأبوية جارفة، ولا تابوهات تجرعها ملعقة ملعقة، بل هي كل ذلك فينا نحن، تسري بداخلنا كمسري الدم في العروق، واتكأ على ركن حصين في عقولنا يوسوس لنا بما يخجل الشيطان منه، فلندرك أن قطع المشكلة هو داخلنا وأن الوسيلة هي بأيدينا، خلوة نعيد فيها فرز ما تلقينا وتنقيح ما تعلمنا بآدمية ووعي.
ولنعلم أن الأمر حينما يتعلق بمستقبل وطننا، وبسلة احتياجاتنا، وبمعاني حاضرنا، وبمستقبل أبنائنا، فالأمر لم يعد يخص النساء وحدهن، ولم تعد قضاياهن وحدهن، بل أصبحنا جميعًا شركاء، رجال ونساء، في حل قضاياها لنحل بها قضية كل فرد، فمصلحة الفرد هي جزء لا يتجزأ من مصلحة الجميع لا محالة.
ولاشك في أننا قطبا المعادلة، فإن تأثر السالب فسد الموجب والعكس صحيح، فلا انشقاق في إنسانيتنا، ولا انشقاق في مواطنتنا، ولا انشقاق في معاناتنا، بل لا انشقاق في احتياجنا، وفي اعتقادي أنه وجب أن نرفع أيدينا بالحل لما هو حله بأيدينا إن كنا نريد أن نخفف العبء على موازتنا العامة فيما يخص علاج العنف، فربما إن تخلينا رأينا كل الجود، وانتعش جزء من حاضرنا، وحتى إن كان البعض يدّعي أن من أسباب العنف ضغط الأعباء فلتنهي العنف لتخف الأعباء.
ولتكون حملة مناهضة العنف ضد المرأة هذا العام بداية لدعوة تلبي جميع احتياجاتنا وتفك كرب الأزمات، صدقوا النساء وادعموهن، شاركوهن بطموح فرد يري شغفه حلمًا يطارده ليلًا نهارًا، انبذوا العنف من أجل إنقاذ أنفسكم جميعًا، فلم يعد الرجال والنساء في مأمن جميعًا نعيش الأزمات وجميعًا نتطلع لتخفيف الأعباء، فليسود اللون البرتقالي في مجتمعنا ويرفرف، في إشارة لنبذ العنف ضد النساء بدلًا من أن يهلكنا اللون الأخضر ويزيد ضغوطنا يومًا بعد يوم.