رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مختار شحاتة: زوجتي منبت الروعة.. ولا نختار ولكن ندفع إلى اختياراتنا (حوار)

مختار شحاتة
مختار شحاتة

الكاتب والروائي المبدع مختار شحاتة والذي ولد بمدينة الإسكندرية، عمل بالتدريس بالعصافرة ومارس النقد المعرفي والإبداعية من خلال مشاركات جمة ومغايرة من خلال مختبر سرديات مكتبة الاسكندرية.

كتب القصة والرواية وانتقل للدراسة والعيش بدولة البرازيل فكانت البرامج وتفتح فضاءات مختلفة من السرد، فكتب روايات «مكاكي دي إفريقيا إفريقيا، ولا للإسكندرية، والعصافرة قبلي)، وفي مسارات الإبحار في بيئته كتب عن عادات وحرف منية المرشد ورشيد في عنوان مغاير يؤكد ارتباطه بجذره السكندري.

حصل على جائزة ابن بطوطة في أدب الرحلات العام الماضي ليصر على التجلي مفردا في سرب يخصه وحده ولينتهي من دراسة الماجستير والدكتوراة في ثلاثة أعوام ويقرر الإقامة بالبرازيل ليدرس في جامعاتها دون خوف ولا يكون لتلك الاحتياطات التي واجهها في وطنه المصري وسكندريته، التي استحوذت على جل فكره وحواسه ترافقه زوجته التي يرى أنها الوحيدة المكملة لمعان الوطن بجانب عشقه المفرط السرد المغاير في أكثر من مسار جعله أحق الكتاب بالتقدير والإنصاف.

«الدستور» التقت الكاتب الروائي والقصاص والباحث الشعبي والناقد دكتور مختار شحاتة ليتحدث عن آماله وآلامه مع الغربة والتغريب وعمق الحكايات وحجبها لعقدين من الزمان، وكان هذا الحوار..

عن الهوية والأعراف ومفهوم المواطنة كيف ترى تفسيرات تلك المصطلحات وصرعتها الآنية من موقعك في الجانب الآخر من العالم؟

أود شكر «الدستور» بشكل عام ولك بشكل خاص في البداية، وللإجابة عن سؤال الهوية والمواطنة؛ في ظني أن إشكالية الهوية ولدت بميلاد الإنسان في الوجود، منذ اللحظة الأولى وهو مشغول بمن يكون؟ وما انتماؤه؟ هل هو ابن الجنة أم ابن الأرض؟ ابن الطاعة أم ابن المعصية، وبالتالي وعبر تاريخ الإنسانية يظل الإنسان مطاردًا بالسؤال عن نفسه من يكون؟ ربما تساعد الأعراف والتقاليد في تحديد الأطر النظرية للإنسان وتُقرب له المسافات والخيارات ليكون أكثر تحديدًا عند التفكير في هويته، خاصة بعد رحلة المعرفة الإنسانية الطويلة للإنسان في هذا الوجود، وأعتقد أن السؤال الأهم الآن يجب أن يكون عن المواطنة، ليحدد الإنسان موقفه من الأرض التي يعيش عليها، ومن القوانين التي يسير بها الوطن.

يمكن للمغترب أن يقع ضحية لصراعات الهوية والمواطنة ما لم يتفهم أن هويته الإنسانية هي الأشمل والأوسع، تلك الهوية التي يكون قوام محدداتها الخير والعدل والحرية واحترام وقبول الآخر، وإلا تحولت حياته في الغربة خاصة وفي الحياة بشكل عام إلى جحيم ينتهي إلى التطرف والعنف ورفض الآخر، وهذا سرّ أزمة كل مغترب، حين يفقد بوصلة هويته الإنسانية الأكثر اتساعًا من مفاهيم الأعراف والتقاليد والوطن. وحقيقة الأمر هو مفيد ومثمر جدًا لمن تفاهم على ذلك التعدد خاصة في الثقافات المختلفة كأن تأتي من الشرق للحياة في الغرب، وهذا ما تعلمته طوال سفري.

مختار شحاتة

عن صورة وفعاليات الأدب المصري والعربي في عيون الآخر الغربي كيف ترصده؟

عشتُ خارج مصر والمنطقة العربية بين ثلاث قارات، أمريكا الجنوبية اللاتينية في البرازيل، وفي أمريكا الشمالية بكاليفورنيا، وفي أوربا بألمانيا، وللأسف الشديد لا يزال الأدب العربي ضعيف الأثر في عيون الغرب، فمثلاً أذكر زيارتي لمؤسسة بيت جورج أمادو في سالفادور بالبرازيل، لكن لا يوجد هناك نسخ من أي عمل أدبي عربي بلغته الأم، خلا بعض المجلات التي جاءت على ذكر أمادو، ربما تلك أزمة كبيرة يواجهها أدبنا العربي وصناعة النشر التي لا يمكنها المنافسة، فسوق الكتاب مثلا هنا في ألمانيا سوق كبير وضخم، ويلزمنا ضخ كثير من الأموال كنوع من قوتنا العربية الناعمة في الغرب بشكل عام، حتى ولو كانت هناك بعض المعارض وبعض المكتبات العربية لكنها تبقى ذات أثر محدود، وإن كان ما تقوم به الجوائز العربية من ترجمات للأدب العربي قطرة في محيط كبير، لكنها تحمل نواة أمل، كتلك التي يحملها مشروع لترجمة الأدب العربي ونماذجه الذي يتبناه مؤخرًا المركز القومي المصري للترجمة. على جانب آخر هناك عشرات الأسماء العربية تكتب في الغرب لكنها كلها كتابات بلغة غير العربية للأسف، وربما هذا لاعتبارات أكاديمية.

عن الجيل والمجايلة.. ليتك تشرح لنا موقفك ومفهومك لهذه التقسيمات؟

يتصادف أن يكون عملي كباحث أنثروبولوجي في وحدة تسمى (الجيل والطبقة)، وفهمي لمصطلح الجيل الأدبي أظنه تطور بعد فهمي للمصطلح اجتماعيا وأنثروبولوجيا، وهذه المجايلة أمر لا بُد منه، لما له من إشارات على تطور إنتاج المعرفة الإنسانية بشكل عام، وبالمناسبة قد لا يكون للسنّ أي دخل في ذلك التقسيم أدبيًا، وفقط أستند له أدبيًا لفهم طبيعة الأسلوب وطرائق السرد، وغيرها من المحددات الأدبية لجيل ما. والأزمة حين يتصادم جيلان، ويغيب الجدل بينهما، والجدل هنا أقصد به المساجلات التي تطور وتفيد لا التي تُقصي وتخون وتأدلج. 

حسين: عن الغربة والغرابة والتغريب. كيف انتهى الكاتب والناقد مختار شحاتة من طي تلك الصفحات؟ وما صدى غربة الإنسان والراوي مختار شحاتة في كتاباته؟

أحيانًا لا نختار، بل نُدفع دفعًا إلى خياراتنا، ومنها الغُربة، وهنا لا أقول إني قدريًا، بل أقول إني إنسان مشغول بفكرة الاختيارات والأسباب، والغربة كانت اختيارًا له أسبابه، وفيها ربما لبيتُ شغفًا شخصيًا بالتجريب والاختلاف، صحيح في بداياتها كانت صعبة للغاية، لكنها أنضجت روحي وكتاباتي لاحقًا، حين أطلعتني على تجارب أكبر وفتحت أفقي على اتساعات لا حصر لها حول الإنسان، وهو ما يشغلني بشكل شخصي، لذلك كانت روايتي الأخيرة "مكاكي دي أفريكا/ القرد الأفريقي" الصادرة في يناير 2022 عن مؤسسة بتانة للنشر والتوزيع بالقاهرة، تحمل الكثير من أسئلتي حول مفهوم الغربة والاغتراب والهوية كذلك، فأنا مؤمن أن الإنسان ابن تجاربه، والغربة تجربة قوية وملهمة للغاية على ما بها من صدمات، لا يخففها إلا الرفقة والتشارك والمحبة.

عن الإسكندرية ومتاهاتها بل سحرها. ماذا تمثل لك الآن في ظل العصف بالهويات والمواطنة؟ ورؤيتك لمستقبل الإسكندرية كونها عاصمة أولى لمصر البطانية وعروس المتوسط. ماذا بقي من سكندريتك؟ ومن إذا من كتاب الإسكندرية الذي اقترب بسروده وروحه ووقعه على المبدع مختار شحاتة؟

غلاف كتاب لمختار شحاتة

لا أخجل من الاعتراف بعلاقتي المربكة بالإسكندرية، بل والمعقدة، فهي مدينة عشت فيها قرابة عشرين عامًا، لكن للحقيقة وهذا يحزن أصدقائي السكندريين، لم أشعر يومًا بالطمأنينة فيها، وهو ما انعكس على كتاباتي عنها، فهي مدينة الفقد بالنسبة لي منذ اختطفت والدي وانا ابن التاسعة، وبعدها اختطفت آخرين أحبهم. هذا أولاً.

وعن الإسكندرية الآنية، فاختلافي واسع مع أهلها وعشاقها الذين يُصرون على أن يعيشوا في ماضي المدينة غافلين عن حاضرها، والذي للأسف يختلف كليًا عن صورتها المُتخيلة الكوزموبوليتانية المروج لها، لأن حقيقة الأمر هناك إسكندرية جديدة معاصرة لها وجه شديد القبح عبر غابات الإسمنت وانعدام التخطيط وغياب الرقابة، وهو واقع للأسف يُصر كثير من مثقفي المدينة الآن على إنكاره، ويكتفون بالبكاء على ماضي الإسكندرية الغابر دون أن يقدم احدهم حلولاً جذرية أو مقترحات تطوير للمدينة ولو تطويرًا بصريًا للمكان، وللحقيقة الدولة شريكة في ذلك بشكل ما.

اما عن كُتاب الإسكندرية؛ يبقى أستاذنا الكبير إبراهيم عبد المجيد، واحدًا ممن شكلوا وجداني الأدبي بشكل عام، أحاول الاقتراب أو قُل المشاركة معه في الجزء الذي تعرفته من المدينة، وهو مختلف تمامًا عن المدينة التي عرفها أستاذنا عبد المجيد، وذلك ما حاولته عبر روايتين هما "لا للإسكندرية" و" عصافرة قبلي"، وكلاهما تناولا الزائدة السكندرية التي ظهرت في شرق المدينة عبر أحيائها المتواضعة.

 

عن الآليات وشكل وخارطة النقد الثقافي والأدبي وتحديدا من خلال تعامله مع نصوصك؟

الحقيقة الأمر مربك معقد جدًا لي كباحث، خاصة في ظل تراجع النقد الأدبي في مصر في السنوات الأخيرة، فليس هناك مجموعة كبيرة من النُقاد يمكن الإشارة إليهم أنهم أصحاب مشروع نقدي متكامل، إلى جانب القصور الشديد في أدوات النقد الأدبي والثقافي في الفترة الأخيرة لأسباب لا حصر لها تتعلق بالتعليم الجامعي والصحافة الثقافية ومجلات النقد والفاعليات الثقافية، وهو أمر محزن للغاية، خاصة حين ترى أساتذة جامعيين يتعاملون مع النقد الأدبي باعتبارات الشخصنة والشللية والمجاملات هنا وهناك، وفي ظني هذا التراجع رسخ لذهنية مفادها أن أي مبدع يمكن أن يكون ناقدًا، ما عليك إلا أن ترى منشورات التواصل الاجتماعي لتكتشف أن العالم الأزرق الافتراضي يعج بهؤلاء النقاد المزعومين، وحين تقرأ ما يكتبون تغضب وبشدة، فما يتم تداوله ليس إلا موجزات وملخصات للنصوص والكتب، ولا يمكنك ان تستشف أي رؤية نقدية أصيلة تحترم النقد باعتباره علم له قواعده كغيره من العلوم، وهذا لا ينفي ضرورة الموهبة. 

وعن علاقتي بالنقاد، للأسف قليلة ومتواضعة، ربما لأنني خارج التصنيفات والشلل، وهو أمر على قدر ما هو راحة بال، لكنه مجحف، وهذا لا يمنعني مثلاً الامتنان لناقد كبير مثل الدكتور محمود الضبع، ود. محمد امين عبد الصمد، من مصر، والدكتور فيصل الأحمر من الجزائر على عنايتهما النقدية بروايتي الأخيرة "مكاكي ي أفريكا"، والتي ناقشها مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية.

حدث محبيك وقرائك، كيف كانت بدايات رحلة خروجك من مصر وكيف ترى حصاد الرحلة؟

غادرت مصر بشكل شبه تام قبل قرابة ثمان سنوات نحو البرازيل لدراسة الماجستير والدكتوراه، في منحة من جامعة ولاية باهيا بالبرازيل، وكانت ملهمة بعد تخرجي في 2020 من قسم الدراسات الإفريقية والشعوب الأصلية والثقافات السوداء (فرع الأنثروبولوجيا والثقافة)، والبرازيل كانت فترة ملهمة ومنتجة في حياتي، أنتجت فيها كباحث أكاديمي مقالات بالبرتغالية حول الربيع العربي منشورة ضمن منشورات جمعية المؤرخين البرازيلين فرع باهيا والتي انتسبت إليها في الفترة من 2018 حتى 2020، كما أنتجت فيها كتابي الحاصل على جائزة ابن بطولة "يوميات عربي في بلاد السامبا"، وكذلك كان من أعظم الإنتاجات رواية "مكاكي دي أفريكا" التي اعتمدت فيها على وثائق تاريخية تؤرخ لثورة الماليز المسلمين في البرازيل في عقود القرن التاسع عشر، إلى جانب عشرات المقالات والقصائد.

في كاليفورنيا أنتجت مسودة لرواية لم تنشر بعد"أنا هايم بلد الهاربين"، وغيرها من نصوص ومقالات منشورة في مجلات مصرية وعربية، وهنا في برلين صرت أصوب النظر أكثر نحو الأكاديمية، ولكني أنهيت مسودة رواية لم تنشر بعد ايضًا تحت عنوان "أغادير" بطلها شاب مغربي خلال تظاهرات الستينيات في المغرب العربي، كما انهيت مسودة كتاب "اشباه المدن" كدراسة اثنوجرافية حول حياة الصيادين في بحيرة البرلس والتحولات الاجتماعية التي تطرأ عليهم، إلى جانب الانتهاء من ديوان شعري يصدر قريبًا عن دار نشر عربية تحت عنوان "ATM"، إلى جانب بعض المقالات العلمية ومشاريع بحثية منها مشروعي مع املجلس العربي للعلوم الاجتماعية ببيروت حول نساء الصيادين وتفكيك صرح الرجولة المتخيلة.

مختار شحاتة وزوجته

عن مفاهيم النشوة الإبداعية أو الامتلاء والشعور بالرضا هل تنتهي رحلة الكتابة مع انتهاء الكاتب من نصه؟

مختار: أؤمن أن الكتابة أعظم فعل إنساني يمكن حدوثه، ولا أظن أي كاتب يمكنه الرضا عن نصه الإبداعي حتى بعد خروجه، فكثيرًا ما أعود لقراءة نصوص منشورة وأتمنى لو يعود الزمن وأعيد إنتاج بعض أفكارها، وهذا أمر صحي للمبدع في ظني، والحق أن كون الإنسان كاتبًا فهو إنسان محظوظ لأن عمره سيكون طويلا شرط الكتابة الحقيقية المبدعة لا المفتعلة الساذجة التي تُشبه زبد البحر.

وما مفهومك لخلاص الإنسان أو الفنان في عالم طغت فيه النفعية على سلوكيات البشر؟

مختار: خلاص البشر كله في المواجهة والاختلاف والقبول للآخر المختلف ومحاولة فهم أسبابه، وخلاص الإنسان في حقيقة ما في قلبه نحو العالم بكل موجوداته الحي والجماد، دون أن ننسى سياقات الأمور التي تحدث فيها.

عن رفيقتك في رحلة العيش والسكن والسكون. ماذا يمثل وجود زوجة مبدعة في حياة كاتب وباحث وفنان عاشق للسفر والترحال؟

مختار وزوجته

مختار: تقصد إيمان؟ إيمان ليست مجرد رفيقة غربة، بل اعتبرها منبت الروعة والرضا في كل حياتي، كصديقة قبل الحبيبة والزوجة والقارئة النهمة لكل ما أكتبه... وجودها يكفيني كنعمة في الحياة لمختار الرجل، ومختار الكاتب، وكثيرًا ما تلهمني أحاديثنا التي لا تنقطع حول كل شيء. إيمان ببساطة هي الحب والرضا والأمان والام والأخت والابنة والزوجة والحبيبة ورفيقة كل ما هو جميل وناضج في الحياة. كما أنها داعمة لكل لحظات جنوني وحبي للحياة