رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتطرف المدنى!

عرفنا المتطرف الديني ولم نعرف حليفه البعيد القريب، ذلك الذي لا لحية له ولا سواك، وقد يكون مؤمنا مثله وقد يكون غويا بغير إيمان، أتحدث عن المتطرف المدني الذي لا يقل تطرفا عن الديني، بل العكس هو الصحيح؛ فبينما المتطرف الديني ظاهر هو خفي، لكنه يمارس الهدم نفسه مستخدما معاول أخرى، وهدمه يدعم هدم الديني في الصميم، ولكننا نغفل عنه مركزين جهودنا في كشف الآخر، وهذه الغفلة خطرة؛ لأنها غفلة تبعد عنه الشكوك وليست ببعيدة على الحقيقة. 
يتطرف المدني كما يتطرف الديني للأمانة، وتطرفه يعضد التطرف الديني كما سبقت الإشارة، فالديني الذي يريد ضرب الدولة وإفشال نظامها ليقيم الخلافة التي يراها طريقة مثلى للحكم، بالرغم من زوال زمنها وتداعي فكرتها، يساويه المدني الذي يدعو إلى الثورة على الدولة مهما يكن إصلاح الأحوال ممكنا، الثورة التي تسقط الكراسي الكبيرة وتربك الأجهزة، متصورا ذلك هدفا ساميا سيرتب الأمور ويأتي بالنفع الشامل، ومتغاضيا عن الكوارث التي يمكن أن تترتب على عمل غوغائي عبثي ضخم، يسميه بالثورة جهلا بأصولها، ومن بينها الفوضى الفظيعة المنتظرة من قبل خصوم متربصين، داخليين وخارجيين، ومنها قد ينفذ الديني (الجاهز والمنظم بصورة سرمدية) إلى الحكم شاكرا تعاون المدني العبيط الذي ساعده في الوصول إلى غايته!!
يجلس المتطرف المدني على المقهى، وغالبا ما يظهر بمظهر المثقف النشيط المتحمس، ويفتح حديثا غاضبا مع الناس عن الحكومة اللاهية، والحكم الذي لا يبالي بمحكوميه، والوطن الذي صار تابعا للغرب الغني القوي المسيطر على حساب مواطنيه الفقراء الضعفاء المقهورين، يحرض الناس، بقوة، على النهوض والصراخ، وإذا سألوه: وماذا بعد؟ يقول بثقة مفتعلة: لا يهم! المهم هو الخلاص من الظلم والطغيان!
ينتقي ألفاظه جيدا، ومعظمها مستفزة، تشعل النار في صدور الصابرين، وتدفعهم دفعا إلى التفكير فيما ينجيهم من مصير مؤلم على أيدي حكوماتهم المذلة وأنظمتهم العميلة.. هكذا يتكلم المتطرف المدني كالديني، هما مختلفان سطحيا، لكنهما ملتحمان في الغور السحيق بحميمية؛ فكأنهما متفقان بالأساس وليسا بمختلفين!!
واجبي أن أنبه إلى هذا الأنموذج المخادع المرعب في كل حين، أفضح زيف حالته وأحذر الخلق منه، لا سيما في الوقت الذي أراه فيه قد استعد للوثوب على الوضع المستقر، مهما يكن رأيه هو في هذا الاستقرار، فرأيه فاسد ومشوش على الدوام؛ لأنه دعي مسار يوافق الحرية والديمقراطية وليس صادقا ولا مستقيما؛ ولذا تطرف كالدينيين الذين يطوفون في الآفاق ليجدوا حلا يعيد إليهم مجدهم الوهمي الغابر المجلل بالدم والخراب..
أيها الناس، ثقوا بي؛ فقد عرفت صنفا من هؤلاء المدنيين لا يهمهم، كأمثالهم الدينيين، إلا أن يصنعوا لأنفسهم أدوارا تقود المجتمع، ولو ضاعت البلاد، وهناك من يكافئ أدوارهم الشريرة طبعا من خلف ستار!!

[email protected]