رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يا عزيزى كلنا تربية واحدة ست

ينطوي التراث الثقافي لنا على مجموعة من الأفكار والمفاهيم التي لازمتنا منذ نعومة أظفارنا حتى الألفية الثانية التي نعاصرها الآن، موروث ثقافي فطرنا عليه، ورضعناه حتى اكتفينا ولكننا لم نفطم منه بعد، يتمثل في جرعة محترمة كما لا كيفاً من الجمل والعبارات، والأمثال الشعبية التي تنم عن طبيعة تفكير الأجداد وإرث الآباء لنا، ودرجات من الوعي الذي رافق أفراد عصره، وهذا الإرث يتضمن  الكثير من الكنوز التي تجعلك تفخر بوعي الأسلاف، وحضارة عقولهم، وتسلسل أفكارهم، ومنهجية رؤيتهم، وتتضمن أيضا بعضاً من الظلمات ذات السمعة السيئة التي لم تعد تليق بنا، ولا تناسب منهجيه تفكير الحاضر، واستنارة الوعي ومنطقيته .
تلك الظلمات ما هي إلا عبارة عن عقاقير سامة تحقن بها عقولنا، وتنزرع بوعينا في كل طبقات المجتمع بأسرها، ولم يعد يجوز لنا بوعي ساذج أن نحصرها في منطقه جغرافية ما من بلادنا أو في طبقة اجتماعية أو ثقافية، فالأيام بمواقفها تثبت أنها لم تترك داراً وشأنها وأنها استطاعت أن تطفئ كثيرًا من قبس العلم، ونور الفكر في شتى الأنحاء بلاهوادة، لأنها دوماً سلاح للضعفاء يستخدمونه حينما تنقطع كل سبلهم في تحقيق غاية لنفسية هشة مهما اختلفت طبقاتهم أو درجاتهم العلمية أو الفكرية.
وتزداد هذه الظلمات كماً وكيفاً، وتأثيراً كلما اتجهت نحو النساء، والنظرة لهن، والصورة الذهنية المتأصلة عنهن، وطرح الوعي حولهن بداية من التنشئة، وحتى الممات لم يتركوه بلا مذهب أو صورة زائفة تلاحق نسائنا، وتتوارثها الأجيال دون تمعن أو تفكير في منطقية ما قاله الأسلاف وما ناقضه المجددون، وما عايشه المعاصرون اليوم، حلقة من المفاهيم لا يكسر قطرها رغم كل ما بذل من جهد لدحض كل المغالطات المنطقية التي ارتبطت بتلك الجمل، والعبارات والأمثال .
ولاشك أننا جميعاً قد سمعنا بواقعة شهيرة نظراً لإحاطتها بنا الأيام القليلة الماضية بقدر كثيف، والتي حاول فيها أحدهم بعدما  فشلت كل تحركاته في إثبات أمرما لا يعنينا،أن يهين ابنه بعبارة من التراث السيئ الذي يزج النساء دوماً، ويستخدمهن في الإهانة، والتقليل والوصم، ويبدل كل ما تبذله النساء من جهد، وعطاء إلي فناء وعدم، ويحاط المرأة دوما بالعنف والكراهية مهما كان دورها أو عمرها.
فمن الطبيعي أنه قد خالطت أذناك في تلك القصة عبارة (أصلك تربية واحدة ست) التي اختارها الأب خصيصاً لتكون قصفاً لجبهة ولده، ووصماً له، واعتبار أن كل تصرفاته لا حرج عليها ولا غبار، وكأن تربية النساء قد تصيب الفرد بالجنون، أو ما شابه ذلك، وأن الشخص الذي تربي على يد امرأة يفعل ما يحلو له دون حساب، أو عتاب على اعتبار أنه قد خالط هويته الفكرية شيئاً من النقص أو ارتبط به انعدام المسئولية .
الغريب في الأمر حقاً أن ثقافة المصريين بحق، وسلوكهم الفعلي يتناقض قولاً وفعلاً، فكيف لثقافة مبنية على تقديس دور الأمومة، بل وترسم إطاراً للأمومة مرتبطا بكم هائل من مسئوليات الرعاية والتربية للأبناء على كاهل المرأة وحدها، وتعتبره دوراً مخصصاً لها، وتلقى عليها وحدها كل ما يخص شئون أطفالها، دون أدنى التفات لدور الأب في التنشئة واعتباره دوراً ثانوياً، أو ربما ليس من أدواره مطلقاًسواء كان موجوداً بالأسرة أو منفصلاً عنها باعتبار أن دور الأب في ثقافتنا الرائجة ما زال ينحصر في العمل والأمور الاقتصادية للأسرة، حتى مع عمل النسوة وتدخلهن الاقتصادي للأسرة .
وربما الأغرب أنك ستجد في ثقافتنا ما يدحض تلك الموروثات بقوة حينما يقرر أحدهم الزواج، ويضع مواصفات وشروطاً في اختيار زوجته، تعليلاً منه أنها ستكون أم أبنائه وستكون مسئولة عن تنشئتهم ورعايتهم، وتقويمهم وتعليمهم، وأنها هي وحدها من سترافقهم ليلاً ونهاراً، وتفكر في مستقبلهم، وتتخذ القرارات، وتهتم بشئونهم الصغيرة والكبيرة، ومن ثم تخبره أو تطلعه أن الأمور مستتبة أو أن المسار قد خرج خارج سيطرتها وتحتاج لتدخله أحيانا.
فما سبق وغيره لا يطلعنا إلا على حقيقة واحدة لا مجال للشك فيها، ألا وهي أن جميعنا بأمر من المجتمع، وبتحديد منه لأدوار الأمومة مهما كان قوام الأسرة، وبدعم واختيار حر من الرجال، وبإطار واضح لمنظومة الزواج وضعها المجتمع  بنفسه دون فرض من أحد أو تغيير لما يرد، قد ربتنا النساء وسهرت لأجلنا، وبذلت كافة المساعي لتنشئتنا، وتقويمنا، وسعادتنا دون استثناء لأحد الصالح والطالح، جميعنا بكل سلوكياتنا وكل طباعنا، وأشكالنا وضمائرنا، واختياراتنا ونوعنا؛ قد ربتنا النساء، نعم قد يشارك الرجال في بعض الأسر بنسب متفاوتة، وقد تترك المسئولية بأكملها في جعبة النساء، ولكن سيظل في النهاية النصيب الأكبر وقتاً، وجهدا وسعياً وتفكيراً من نصيب المرأة في رعاية الأبناء وتقويمهم.
ورغم أن ما سبق هو تلخيص لمنهجيه تفكير مجتمع بأسره في ما يخص وعيه عن الزواج والأمومة، والأدوار وتقسيم المسئوليات، وهو أيضا صورة لما يتم تطبيقه واقعيا، إلا أن هذا المجتمع لا ينسي من وقت لآخر أن يسترد ظلماته وسط الحديث، ويزج بالنساء في أي انتقاص كما ذكرنا مسبقاً، وقد يستخدم النسوة في الوصم أيضا كلما كان الفرد فاسداً أو تنشئته بها عوار، ومع كامل الأسف يكون على النقيض من ذلك تماماً إن توسما في الشخص أدباً أو احتراماً، وسرعان ما تنقلب الآية ويغفل دور النساء، وتنسين تماماً وكأنهن لم تفعلن شيئاً ولكم يكن لهن دور من الأساس، ويمدح الرجل بعبارات مثل (أصلها خارجه من بيت راجل) أو (أبوها راجل) خصوصاً مع الأنجال الإناث.
هذا العوار السلوكي إن دل فسيدل على فساد منطق التفكير، ومنهجية الواقع، وصحة التطابق بين ما لدينا من إرث، وما نتبنى من أفكار، وما ننتهجه من طريقة للحياة، وما نمارس من سلوك وما نستخدمه وقت الصراع، وفى اعتقادي أن لو هناك بالمدينة عاقلاً لما استطاع تحمل كم التناقض والشتات بين الأمر وعكسه ولأدرك أن النساء تحتمل مالا يطاق، فهن من تربين على ألا تترك أو تتخلين عن الأبناء مهما كانت الأسباب والدوافع، ثم تفني الجهد والعمر،وفي نهاية المطاف، بدل من أن تحمدن على ذلك نتوجه لهن بالوصم والتراشق والتقليل.
ولا أدري بصدق متى تترك النساء وشأنهن دون زج، أو تأطير، أو تدخل  في كل شأن يعنيهن أو لا، فأرى أننا يجب أن نعقل أنه لم يعد مقبولاً أن تهان نساؤنا على نتاج تصرفات آخر أين كان موقعه، بل ووجب علينا أن نتخلص من تلك الأوبئة، وننير كل الظلمات إن كنا حقاً وبصدق مجتمع يتسق مع أفكاره ويقدس أدوار النساء في الرعاية وأن لا نترك ذريعة لزج النساء في مساحات من الخلاف لسن طرفاً فيها، وأن تترك مساحات من التدبر والتأمل فيما زرع فينا، وما نعلنه وما تمارسه ضمائرنا بحق حتى لا تترك مساحة لبائس أن ينبش في ظلمات الماضي ليحقق نصراً بها على أكتافهن اليوم.