رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإدراك الإنسانى

يتكون البناء البشرى من بَدن له محددات فيزيائية ومعه ملكات النفس، أو ما يعرف بالذات البشرية. فى البداية، دعونا نتفق على أن مفهوم الإدراك هنا يختلف تمامًا عن مفهوم الوعى، فهو- أى الإدراك- عبارة عن فهم المعنى الذى يصل للجسم عبر أى من الحواس الخمس بعد التحليل والربط مع الخبرات السابقة.

لكل من الحواس الخمس مدخل تشريحى تقوم عليه وظيفة التلقى، ففى التلقى المرئى هناك العين، وفى التلقى المسموع هناك الأذن، بنفس القياس هناك أيضًا الشم والتذوق واللمس، ودعونا نستبعد تمامًا أى سادس للحواس، فليست هناك حاسة سادسة ضمن علم وظائف الأعضاء فى الإنسان، ولكن من الواضح أن إصرار البعض على إدراج مسمى «الحاسة السادسة» جاء بسبب الخلط بين مفهوم الشعور والإحساس، فما يصلك من تأثير الصوت عبر الأذن هو «الإحساس» وهو أولى مراحل التلقى من المحيط الخارجى عبر المستقبلات الحسية، سواء الموجودة تحت الجلد لتحسس الحرارة أو الموجودة بشبكية العين لتحسس الضوء أو قوقعة الأذن لتلقى الصوت، وتأتى بعد ذلك مرحلة نقل الصوت إلى المخ لفهم طبيعة هذا التلقى، وهى مرحلة الفهم، وفيها تتم مضاهاة العبارة المسموعة مع الرصيد المعرفى لفهم عبارة «صباح الخير» مثلًا، وأخيرًا يأتى دور «الإدراك» وهو فهم الرسالة أو التلقى كاملًا تمهيدًا لإطلاق ردة الفعل برفع اليد عن الجسم الساخن، أو الانتباه لبوق السيارة وهكذا.

لاحظ أن جميع مكتسبات الحياة ومدركات العقل من معارف وخبرات وتجارب لا بد وأن تكون قد وصلت إليك عبر واحدة من الحواس الخمس، إذ لا توجد بوابة سادسة نتعامل بها مع الحياة، أمّا ما يعرف بالحاسة السادسة فهو أمر «ميتافيزيقى» خارج نطاق البحث الدليلى، ومن ثم نجد أن تعريفه يضعه فى إطار الفهم الفلسفى، ولم يفلح فى التعامل معها وهو أمر لم يُتح بعد.

تعرف الحواس الخمس فى الطب باسم «الحواس الخاصة»، ويرجع السبب فى تسمية الحواس بـ«الخاصة» لأنها تخص كل شخص على حدة، فأنت تستقبل المؤثر كالطعم أو الرائحة أو اللون أو الصوت وتحتفظ به فى ذاكرتك وفق إدراكك وحدك، ولو طلب منك وصف اللون الأحمر لشخص مولود أعمى، أى لا خبرة له بالألوان، فلن تفلح فى نقل فهمك للون الأحمر ولو قضيت سنوات تتحدث إليه، ولو طلب منك وصف عطرك الذى تألفه شريطة أن يصل وصفك إلى إدراك محدثك للعطر بشكل مطابق لتجربته، فلن تفلح أيضًا، وبالمثل لا يمكنك وصف صوت مطرب لمحدثك بالعبارات والكلمات بحيث يتلقى الصوت كما تعرفه. 

هل توجد أفضلية لحاسة على أخرى؟ 

جرى العرف على أن حاستى السمع والبصر هما أهم الحواس على الإطلاق، ولكن هذا الاعتقاد خاطئ، ودعنا نفسر حجم الخسارة فى فقد كل حاسة على حدة:

فقد حاسة اللمس يجعلك تفقد توازنك، بل وتفقد علاقتك بالحياة، فلولا لمس قدميك عتبات الدرج وأنت تصعد السلالم لما أدركت الارتفاع الذى ستكرره فى كل نقلة بعد الدرجة الأولى التى تأخذ منها المقاس، ولولا حاسة اللمس فى جلدك لظللت تحك وخزة البعوضة على جلدك بلا توقف حتى تسيل منها الدماء.

تتساوى أهمية حاسة الشم مع حاسة التذوق، ولكن المصيبة الأعظم أن متعة الطعام، وهى ثانى متعة بعد الجنس فى التصنيف الفسيولوجى للوظائف، لا تكمن فى تذوق الطعم وحده، ولا فى رائحته بل فى المزيج بينهما، وهى «النكهة» التى تؤتيها حاستا الشم والتذوق مجتمعتين، فلو فقدت حاسة الشم أو التذوق، فقد ضاع منك ثلثا متاع الدنيا.

بفقد حاسة السمع يُفقد الكثير، لأن وظيفة السمع ليست فقط لتلقى الأصوات كما يظن البعض، بل لربط بدنك بإيقاع الحياة، فالتواصل البشرى لا يقف عند النظر وحده الذى لا ينقل سوى ٦٠٪ من الصورة والباقى يستكمل عبر وظيفة السمع!!

جرب مشاهدة فيلم مترجم ناطق بالإنجليزية وأنت لا تجيدها بما يكفى لمتابعة الفيلم بالاستماع، فتتابع بعينيك المَشاهد وتقرأ الترجمة، ويظل سماع الأصوات والحوار المنطوق ساريًا بحاسة السمع وبلغة أنت لا تجيدها، ولدى كتم الصوت لدقائق، ستنزعج ولن تكمل المشاهدة الصامتة. لذلك، لم تلق المسلسلات المدبلجة قبولًا حسنًا مع الكثيرين كونها فاقدة مصداقية تطابق الصورة مع الصوت.

أمّا حاسة البصر فهى غالية بالطبع لأنها تنقل لك مباهج الحياة وتربطك بصريًا بمحيطك، ولكنها أرخص حاسة لأن فقدها ليس كارثيًا، بل يراه البعض نعمة.

تتبقى لفاقد البصر «ثمانى» حواس من أصل الحواس الخمس؛ لأن كل حاسة من الأربع الباقيات «تتضاعف» قوتها، بل وتتحسن جودتها بعد فقد البصر، والسبب أن حاسة البصر تستحوذ على ٧٠٪ من طاقة الذهن «التركيز»، لذا نغمض أعيننا بقصد إيقاف حاسة البصر إراديًا لنوفر الحصة الأكبر لحاسة الشم لدى تدقيق نوع العطر، أو لتقوية حاسة التذوق فتغمض عينيك وتتذوق بدقة أكبر.

وتخبرنا تجارب الحياة بأن حاسة اللمس لدى فاقد البصر تتضاعف فيكتسب مهارات لا يؤتيها المبصر، مثل إدراك قيمة العملة الورقية من ملمسها، فلا يمكنك خداع الضرير بورقة مزورة تحاكى العملة، بل يتمكن الأب أو الجد الضرير من التعرف على حفيده بتحسس قسمات وجهه!

ليس هذا وحسب، بل يمكن لفاقد البصر تحسس كثافة الأجسام وتقدير كينونتها بالنقر عليها بالعصا، فالأعمى يفرق بلمس العصا بين إطار السيارة وحجر الرصيف والشجرة.

يحظى فاقد البصر بنفس التعاظم فى حاسة السمع، فتزيد حدة السمع لديه ويستطيع التفرقة بين وقع الأقدام ويخبرك من نمط خطواته مَن القادم، وأن القادم فلان بعدما يعتاد سماع خطواته. 

هناك وظيفة اعتمدها العرب قديمًا وهى «قصاص الأثر» عندما كان الضرير يتنصت بأذنيه على الرمال ليسمع وقع أقدام المسيرة القادمة قبل وصولها بأميال.