رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لويس عوض يحكى اللحظات الفاصلة فى حياة طه حسين

يصف د. لويس عوض فترة الثلاثينيات من القرن المنصرم بأنها «تلك الفترة الهائجة المائجة الممزقة وصراعاتها العنيفة، وكل أشجانها وكل انتصاراتها العظيمة وكل هزائمها المريرة، تتبلور كلها فى قصة طه حسين واستقلال الجامعة»، ذلك العقد نفسه رصده نجيب محفوظ فى «المرايا» عندما كان طالبًا فى آداب القاهرة، تلك الفترة الحاسمة فى تاريخ مصر أثرت أعمق الأثر فى لويس عوض التى رصدها فى كتابه الجميل «الحرية ونقد الحرية».

أما عن طه حسين فالناس جميعًا يعرفونه عالمًا ثائرًا وكاتبًا فى طليعة الأحرار ووزيرًا للمعارف يوزع العلم كالماء والهواء ومديرًا لجامعة الإسكندرية ينشئ الكليات... وغيرها من المناصب، لكن الناس يذكرونه بصاحب العمادتين، عمادة كلية الآداب، وعمادة الأدب العربى. وقد آلت إليه عمادة الأدب العربى بعد نشر كتابه «حديث الأربعاء» فى عام ١٩٢٥، وكتاب «فى الشعر الجاهلى» عام ١٩٢٦، أما عمادة كلية الآداب فلم تستغرق سوى سنوات قليلة ومتقطعة، ولأنها كانت كذلك غدت رمزًا لتلك الفترة القلقة المضطربة فى تاريخ مصر الحديث، كما يرى لويس عوض.

بعد مقتل السردار لى ستاك قائد عموم الجيش البريطانى فى عام ١٩٢٥، على يد عبدالفتاح عنايت، وهو واحد من رجال ثورة ١٩، هاجت بريطانيا وتصرفت بغرور وصلف، وانتهزت الفرصة لتخلع مصر من السودان وتطالب بجنازة مهيبة يشترك فيها كبار السادة المصريين وغرامة مالية هائلة، وغيرها من الشروط المذلة لمصر والمصريين، ورضخ سعد زغلول لمعظم شروط الإنجليز، لكنه استقال من رئاسة الوزراء، ليخلفه منافسه اللدود عدلى باشا يكن زعيم الأحرار الدستوريين. فى نفس العام كان طه حسين ينتمى ويكتب ويدافع عن الأحرار الدستوريين، ويهاجم الوفد باعتباره خصم الأحرار الدستوريين، وحزب الأحرار الدستوريين يعتبره الجميع حزب الأعيان وكبار الملاك ويمكن نعتهم بـ«الحمائم» أو «المعتدلين» فى مواقفهم حيال الاحتلال الإنجليزى، بينما كان الوفد يمثل تيار الوطنية المصرية الجارفة، وهم «الراديكال» و«الصقور» بالقياس للأحرار الدستوريين. وكانت أولى ثمار إيمان العميد طه حسين بحرية البحث العلمى كتابه «فى الشعر الجاهلى» عام ١٩٢٦، كان سعد رئيسًا للبرلمان الوفدى وعدلى رئيسًا للوزراء، وتقدم النائب الوفدى «عبدالحميد البنان» باستجواب فى البرلمان بخصوص كتاب «فى الشعر الجاهلى». وطالب البعض بإقصاء طه حسين عن الجامعة، إلا أن عدلى باشا يكن هدد بالاستقالة، فتراجع النائب الوفدى عن الاستجواب، وانتهت الأزمة سياسيًا، لتدخل الدعوى إلى طور النيابة العامة التى رفعت إليها الدعاوى التى انتهت بمصادرة الكتاب. وانتبه الرأى العام فى شىء من الفتور إلى طه حسين حيث بدا متناقضًا فهو «ثائر» فكريًا و«عاقل» سياسيًا.

وفى عام ١٩٢٨ تجددت الأزمة، فقد خلا منصب عميد الآداب بعد انتهاء مدة عمادة «ميشو»، وجرت انتخابات وفاز بالعمادة طه حسين فى انتخابات حرة. فى تلك السنة حكمت مصر وزارة ائتلافية من الوفد والأحرار الدستوريين، وكان «على الشمسى» الوفدى وزيرًا للمعارف، فعارض على الشمسى الوزير الوفدى تعيين طه حسين، لأنه ينتمى إلى الأحرار الدستوريين. وحدثت أزمة كبيرة، وكان السؤال «أين استقلال الجامعة عن السلطة التنفيذية إذا كان وزير المعارف يتدخل؟» وأصر الوزير على رفض تعيين طه حسين، وتوصلوا بعد تفاهمات إلى حل وسط، أن يتنحى طه حسين عن العمادة، وأن يعتمد الوزير قرار تعيينه، وأن يباشر طه حسين واجبات وسلطات العميد ولو يومًا واحدًا، وقد كان، ووقع الوزير القرار ودخل طه حسين إلى مكتبه ووقع بعض الأوراق وفى المساء قدم استقالته، وعاد «ميشو» إلى عمادة الكلية. ويعلق لويس عوض على ذلك «حل أعرج ولا شك، لكنه يحتوى على بذرة تمرد للحفاظ على استقلال الجامعة ولو من ناحية الشكل، وعلى طريقة بيدى لا بيد عمرو».

فى عام ١٩٣٠ طرد الملك النحاس من الحكم، وكانت ديكتاتورية إسماعيل صدقى، وانتخب مجلس كلية الآداب طه حسين عميدًا خلفًا لـ«ميشو»، ووافق وزير المعارف فى حكومة صدقى وهو مراد سيد أحمد على تعيينه، ولم تستمر حالة الهدوء طويلًا، ففى عام ١٩٣٢ تجددت الأزمة، فقد تولى حلمى عيسى وزارة المعارف بدلًا من مراد سيد أحمد. وكان سبب الأزمة أن حكومة صدقى، ووزير المعارف حلمى عيسى أرادا أن يمنحا أربعة من أقطاب السياسة المصرية «ينتمون جميعًا للحقوق» درجة الدكتوراه الفخرية، وهم: على ماهر وإبراهيم يحيى وعبدالعزيز فهمى وتوفيق رفعت، وعارض طه حسين ذلك، فالتجأت الحكومة إلى كلية الحقوق، التى منحتهم اللقب، لكن عُوقب طه حسين وصدر فى ٣ مارس قرار بنقله- بسبب معارضته الوزير- إلى وزارة المعارف للعمل مع حلمى عيسى وزير المعارف، وفى ٢٩ مارس تمت إحالة طه حسين إلى المعاش لرفضه العمل مع حلمى عيسى باشا فى وزارة المعارف. وكان لإقصاء طه حسين دوى عظيم، فأضربت الجامعة شهرًا أو يزيد، وتحول طه حسين رمزًا لاستقلال الجامعة، وصمودها أمام السلطة التنفيذية، ليس فقط بين المثقفين ولكن أيضًا على المستوى الجماهيرى.

ثم يوضح د. لويس عوض الأسباب التى حولت طه حسين الذى كان طيلة العشرينيات مجرد أستاذ جليل يشهد الكل بعلمه العظيم، لكنهم ينظرون فى ضيق إلى آرائه المتعالية على السياسيين الجماهيريين. وتلك النقطة الخاصة بالانعطافة الروحية العميقة التى حولت طه حسن من الأحرار الدستوريين إلى حزب الوفد ورضاء الجماهير عنه، أن حزب الأحرار الدستوريين فقد الرجال الذين كان طه حسين يعتبرهم الصفوة بالعلم وبالعقل، مثل عدلى يكن وعبدالخالق ثروت وأحمد لطفى السيد، وبعد فقدهم آلت زعامة الحزب إلى رجال من الصفوة أيضًا، لكنها صفوة مختلفة لم ترق للدكتور طه، صفوة تعتمد فى علوها على «المال» وعلى «الحسب»! مثل محمد محمود. الذى كان يتباهى مرددًا «أنا ابن من عرض عليه الملك فأبى»، مشيرًا إلى شائعة أن الإنجليز عرضوا على والده محمود سليمان عرش مصر بعد موت السلطان حسين لكنهم أتوا بالملك فؤاد.

وفى صفحة ١٥ من كتاب لويس عوض القيّم الجميل، يصف لنا باعتباره شاهد عيان على أحداث ذلك اليوم الجليل، فى يوم من أيام شهر ديسمبر عام ١٩٣٤، كان لويس عوض آنذاك طالبًا بالسنة الثانية فى كلية الآداب، وكان طه حسين قد ترك الأحرار الدستوريين وانضم لكتيبة كتاب «كوكب الشرق» الوفدية، وجاء النبأ بصدور قرار بإعادة طه حسين إلى الجامعة فى وزارة توفيق نسيم.

يكتب لويس عوض «حين جاءنا النبأ تجمعنا من كليات الآداب والحقوق والعلوم، وخرجنا خارج الحرم، وانضم إلينا طلاب المهندسخانة ومدرسة الزراعة ومدرسة التجارة ومدرسة الطب ودار العلوم والطب البيطرى، وانضم إلينا طلاب السعيدية الثانوية، وتجمع عشرة آلاف طالب فى المكان بين حديقتى الأورمان والحيوان، فى مكان تمثال نهضة مصر، وكنا نعلم أن طه حسين سيأتى بسيارته من (البلد) وكنا فى استقبال العائد إلى داره بعد ثلاث سنوات، وأتت السيارة فى شارع مراد، لكننا أوقفناها ولم نفسح لها مجالًا، وأنزلناه منها وسط هتاف كأنه هدير أمواج البحر الصاخبة، ثم حملناه على الأعناق طول الطريق، وتبلورت الهتافات فى كلمتين رددتهما آلاف الحناجر التى كانت تنادى (طه حسين) ولا شىء سوى طه حسين، ودخلنا به الجامعة وصعدنا به الدرج، وأردنا أن نجلسه على مكتب العميد وقد تخيلنا أن الله لم يخلق ذلك المقعد إلا ليجلس عليه طه حسين. وشعر طه حسين بالكثير من الحرج لأن العميد منصور فهمى كان ما زال فى غرفته وقد أغلق على نفسه بها والهدير يحاصره، وعَنّ للطلاب أن يقتحموا على منصور فهمى الغرفة ويدخلوا عليه بطه حسين محمولًا على الأعناق لتنصيبه عميدًا، لكن طه حسين لم تعجبه تلك الغوغائية فمنعهم، وقال لهم: هيا إلى قسم اللغة العربية».

هذه صورة حية نقلها لنا لويس عوض وأقدمها للأجيال الجديدة كنموذج وكمثل أعلى للمثقف المستنير والتنويرى النبيل الذى ينأى عن الدنايا والصغار، وهناك من يدعى فى إلحاح والذى كان مرءوسًا عند فاروق حسنى ويدعى هذا المرءوس وصبيته وخشداشيته أنه تلميذ وخليفة طه حسين، وهل يتماثل الثرى بالثريا؟.