رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أن تكون ثقيلا في عالم خف

بعضنا يكون ثقيل الحركة، أثقل من جبل ضخم راسخ، والعالم من حوله خفيفها، كمثل طائر مرح، وبعضنا يكون ثقيل الكلام، تمج كلامه الآذان فلا يطيب لها وقعه ولا سماعه، والعالم المحيط به يلقي الكلمة بسيطة وسريعة، كمثل ما يلقي ورقة شجر باتجاه سير الريح!
أن تكون ثقيلا في عالم خف؛ معناه أنك لا تفهم واقعك، وأنك وهو ستتصادمان لا محالة، والمشكلة الحقيقية هنا أن تظن أنك أرجح وزنا منه وأنه فارغ ولعين.. تتولد مصائب لا حصر لها من هذا التناقض الذي يعكس جهلا بالزمن، لا يكون المرء عاقلا ولا عالما لو أنه تعالى على زمنه، وقال إنه ليس له، وإنه كان ينبغي أن يكون ابن زمن آخر، يقدر ثقله ويعي مكانته..
لا يعني الثقل قوة ورشادا ولا تعني الخفة ضعفا وضلالا، هكذا مطلقا، ومن فهم سوى ذلك فليس بحكيم، إنما الأمر يتصل بالإيقاع العام اتصالا وثيقا؛ فالثقل في وقت الخفة خطأ كبير والخفة في ساعة الثقل تزري بأصحابها، وزمننا الحالي موصوف بالخفة تبعا لما جرى فيه ويجري، ولا يعيبه أنه اتصف بها؛ فليست الخفة عيبا بحد ذاتها، كما سبق البيان، لكن يعيب من يعامل زمنا من الأزمان أن يتصرف معه بهوى مختلف.
على سبيل المثال، يظن معارضون كثيرون لأنظمة الحكم في بلدانهم أنهم أهل ثقل وكل من يقفون ضد مسارهم أهل خفة؛ فالحس المعارض يوهمهم بذلك، ولا يستمعون إلى أصوات تعارض وهمهم بتة، بل يشككون فيها تشكيكا كثيرا، ويطعنونها بألسنتهم الحادة، لا يتريثون لحظة؛ فيستنتج ذكي واحد منهم أن معارضته لمعارض له، تعصف بمعارضته هو لحكامه من أساسها، يظلون أغبياء ومتعصبين لما آمنوا به، حتى لو زعموا أنهم نقائض الغباء والتعصب!
في خفة هذا الزمن إيجابيات كثيرة، كما كانت إيجابيات في ثقل ما قبله طبعا، ولا ينكر الأمرين سوى بائس الفكر، غير أننا لا نبصر سوى النصف الفارغ من الكوب، هكذا العادة للأسف، ولا نعترف بأفضال ما بين أيدينا من الواقع المعاش، مقدار ما نبكي على ما فات، ونغرق في اجترار الماضي، ثم نكذب على أنفسنا، ويكذب بعضنا على بعض، فنسمي هذه الخيبات الشخصية وفاء عظيما للذكريات
وأشواقا صادقة لما مر أوانه، مع أننا نوشك أن نكون قدماء بأوان ليس للقدماء!
لو أننا تأملنا الواقع المعاش لوجدناه يعضدنا في كثير من المجريات؛ لأن الأشياء تغيرت حقا، تغيرت أشكالها وجواهرها وطبائعها، لا أعني أنها تغيرت للأسوأ، فهذا ما صار يخطر بالأذهان عاجلا مع سماع كلمة التغير، لا أدري لماذا، لكنني أعني جريان التغير فقط، أي التبدل والتحول إلى أنماط جديدة، والأكثر إشراقا أن ننال أنصبتنا من التغير بفأل حسن!