رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وعادت «ريما» لعادتها القديمة!

وقعت وزارة الخارجية الليبية ونظيرتها التركية في طرابلس، مؤخراً، اتفاقية للتنقيب عن النفط والغاز في المياه الليبية، عقب مرور ثلاث سنوات على إبرام اتفاق ترسيم الحدود البحرية المثير للجدل، والذي أثار حفيظة مصر والاتحاد الأوروبي حينها.. ومن شأن هذه الاتفاقية أن تعزز النفوذ التركي في ليبيا وتمدده، كما أنها تزيد من حالة التوتر بين عبد الحميد الدبيبة، رئيس الحكومة المنتهية صلاحيتها، ورئيس الوزراء فتحي باشاغا، المُعين من قبل البرلمان الوطني الليبي.. ويبدو أن الاتفاقية التي جاءت في ظرف دقيق بالنسبة لليبيين، لا تخرج عن سياق الثمن الذي تدفعه السلطة المنتهية صلاحيتها في طرابلس، لقاء الحفاظ على الدعم التركي في مواجهة الحكومة المعينة من قبل البرلمان بقيادة وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا.. فما الذي قلّب الأوراق، ودفع أنقرة نحو التنكر لمسلكها التي كانت قد بدأته، للعيش في هدوء مع جيران المتوسط؟.
كان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يعيش أزمة سياسية واقتصادية خانقة في بلاده، وحالة من التفسخ في حزبه الحاكم، بعد سلسلة من الاستقالات لكبار رجالات حزبه، التنمية والعدالة.. هذه الأزمات تعني أن مشروع أردوغان الداخلي يتآكل، ويبحث عن مصادر دعم خارجية لذلك المشروع، وبالتالي لن يجد أفضل من مصر لتحقيق ذلك.
لاحظ العديد من المراقبين خلال الفترة الماضية، أن تركيا تريد المصالحة مع مصر، وتعمل على إعادة العلاقات إلى سابق عهدها، بعد أن وجدت نفسها في عزلة كبيرة، نتج عنها تدهور اقتصادي كبير، نتيجة لسياسات أردوغان العدائية مع الجيران والأصدقاء.. أظهر الساسة الأتراك، وعلى رأسهم الرئيس التركي نفسه، تحولاً كبيراً تجاه مصر.. فبعد أن كانت تصريحات الساسة الأتراك وأردوغان، هجوماً مستمراً على مصر ورئيسها، أصبحت الآن «مغازلة»، كما أطلقت عليها الكثير من وسائل الإعلام العربية والأجنبية.. وبدأ هذه المغازلة رئيس الوزراء التركي السابق، بن على يلدريم، الذي كتب في 2016، عن ضرورة الفصل بين العلاقات الاقتصادية والاجتماعية من جهة والخلافات السياسية من جهة أخرى، فيما يتعلق بالتعاون مع مصر.. ولم يكن يلدريم هو المسئول التركي الوحيد الذي يدلي بهذه «النغمة» الجديدة من التصريحات، لأنه جاء بعد مستشار الرئيس التركي، ياسين أَقطاي، حينما قال: إن «الجيش المصري جيش عظيم، ونحن نحترمه كثيراً، لأنه جيش أشقائنا».. أيضا جاء بعد أردوغان، الذي قال في مؤتمر صحفي عن أزمة بلده مع اليونان، بشأن التنقيب في شرق البحر المتوسط: «إجراء محادثات استخباراتية مع مصر أمر مختلف وممكن، وليس هناك ما يمنع ذلك، لكن اتفاقها مع اليونان أحزننا».. لكن وزارة الخارجية المصرية أبدت تحفظاً على «المبادرة» التركية، وقالت في بيان، إن «نهج» تركيا يفتقر إلى «المصداقية».
وفي الوقت الذي تؤمن فيه أحزاب المعارضة التركية بأهمية التقارب السياسي مع مصر، فإنها تندد بعلاقة الرئيس أردوغان بجماعة الإخوان الإرهابية، وإيواء تركيا بعض أفرادها على أراضيها.. فما الذي يقف وراء هذا التحول التركي الاستراتيجي؟
جاءت تصريحات الساسة الأتراك، ومغازلة أنقرة لمصر، نتيجة التحول الاستراتيجي الذي أقرته القاهرة خلال الشهور الماضية، تجاه محوري ليبيا وشرق المتوسط.. وفي يونيو 2020، وبعدما تفقد وحدات عسكرية في قاعدة سيدي براني الجوية، قرب الحدود مع ليبيا، تحدث الرئيس عبد الفتاح السيسي عن «حق مصر الشرعي للتدخل في ليبيا»، بعد أيام من تصريحه، أمام حشد ضم عدداً من قيادات القبائل الليبية: «إذا كان يعتقد البعض أنه يستطيع أن يتجاوز خط سرت ـ الجفرة.. ده أمر بالنسبة لنا خط أحمر».. كذلك يأتي توقيع اتفاق ترسيم الحدود المصرية اليونانية، كـ«تحول استراتيجي ثان»، ترتب عليه «حصار» قانوني لتركيا، وقضم لتوسعها غير المنضبط.. أيضاً، يقول المراقبون: إن تركيا تهدف إلى التوصل لاتفاق مصري ـ تركي، حول المياه الاقتصادية بين الدولتين في شرق المتوسط.. وتصريحات تركيا تريد استقطاب مصر، من بين التحالفات القائمة في منطقة شرق المتوسط، لأن مصر تمثل ثقلاً، وستحقق تركيا مكسباً إذا نجحت في كسر هذا التحالفات.
أبرمت أنقرة اتفاقية تعاون عسكري وأمني، واتفاق ترسيم بحري مثير للجدل في نوفمبر 2019، مع حكومة الوفاق الوطني السابقة التي كان يقودها رجل الأعمال الليبي ـ البريطاني، فايز السراج ومقرها طرابلس، الأمر الذي قوبل بإدانة العديد من الدول وعلى رأسهم مصر.. ومحاولة التقرب التركية، تهدف ـ كما قلنا ـ لاستقطاب مصر من تحالفاتها الجديدة.. في وقت تبدو فيه محاولة إعادة التحالف القديم معها غير سهلة، فعقبات جمة تقف حائلاً دون تنفيذ ذلك.
لم يكن التدخل التركي في ليبيا وليد الأمس، وإنما بدأ بعد شهور قليلة من اندلاع الانتفاضة الليبية عام 2011، بعدما سعت أنقرة للتدخل في سوريا والعراق ومصر، في محاولة لإعادة رسم خريطة المنطقة وتوسعة رقعتها السياسية وهيمنتها.. تدرجت محاولات أنقرة للتدخل في ليبيا، من خلال التقرب لعناصر تنظيم الإخوان، باستضافتهم في إسطنبول، لإعادة تأهيلهم سياسياً وكسب ولائهم.. واستمرت الأوضاع حسبما ترغب تركيا، رغم أنها واجهت بعض الصعوبات في ذلك، إلا أنها استطاعت تعزيز دورها داخل ليبيا أكثر، عقب تشكيل المجلس الرئاسي الليبي، برئاسة الإخواني فايز السراج، نهاية 2015.. وحين كان أردوغان يشغل منصب رئيس الوزراء في بلاده، كثيراً ما تودد للرئيس الليبي الراحل، معمر القذافي، وطلب منه ضرورة تعزيز العلاقات بين إسطنبول وطرابلس، وأن يكون للشركات التركية نصيب من التجارة في ليبيا، وتوسعة رقعة الاستثمارات الليبية في إسطنبول، ولكن القذافي لم يفضل التعاون، بالشكل الذي كان يرغبه أردوغان.. وبعد تعرض اقتصاد بلاده لخسائر هائلة، لم يجد أردوغان أمامه سوى ليبيا، لمحاولة ضرب مصالح مصر واليونان وقبرص في التنقيب عن الغاز، وسعى لاقتطاع جزء من كنز الغاز المتواجد في أعماق المتوسط، بتوقيع اتفاقية مع السراج، للوصول إلى صيغة تفاوض بين بلاده ودول البحر المتوسط الأخرى، لأن الغاز مسألة حيوية في علاقته مع أوروبا، ويريد أن يمسك ورقة للتفاوض مع الاتحاد الأوروبي، في مسألة انضمام تركيا إلى دوله.
وحينما اندلع النزاع المسلح بين الجيش الوطني الليبي، بقيادة المشير خليفة حفتر، والقوات الموالية لحكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، دخلت تركيا بثقلها على خط القتال الدائر، حيث قدمت تركيا دعماً عسكرياً لحكومة الوفاق، تمثلت في عشرات شحنات الأسلحة المهربة إلى مسلحي حكومة الوفاق، رغم القرار الأممي القاضي بحظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا.. لكن خط مصر الأحمر، الذي رسمه الرئيس عبدالفتاح السيسي أمام أردوغان، ممتداً من سرت إلى الجفرة، كان له الدور الفاعل في قلب معادلة الصراع على الأراضي الليبية، والحد من جموح أردوغان في أراضي عمر المختار.. لتضاف بذلك، صفحة جديدة من تاريخ تركيا الأسود في ليبيا، الذي يعلمه الليبيون جيداً، ولم ينسوا أنها سلمت بلادهم لإيطاليا، وقت انهيار الدولة العثمانية، عام 1912، بعد أن نفذ الاحتلال العثماني مذابح كثيرة في طرابلس.. فأي خير يتذكر به الليبيون الأتراك؟.. النفط والغاز في البحر المتوسط فقط، هو ما يهم أردوغان الحصول عليهما بأي طريقة كانت.. الدولة العميقة في تركيا لا تريد التحرك تجاه التنمية والتقدم في الدول العربية، ومساعدتها اقتصادياً حسبما تتحدث دائماً، وإنما هدفها السيطرة على ثرواتها قدر الإمكان.

خلاصة ما سبق.. أن تركيا المُحبطة في المنطقة لم تعد قادرة على الاحتمال أكثر.. فهي محبطة من عودة العرب، وتصاعد قوة دول الاعتدال العربي، خصوصاً دول الرباعي.. ومحبطة من فشل مشاريعها وهزيمة عملائها وافتضاحهم وانكشافهم، بعد أن بدأت الشعوب ترى بعين الواقع ما رأته الدول والقيادات من قبل بعين الوعي.. فالدول تختلف عن الأفراد، على الرغم مما قد يجمع بينهما في بعض السياقات.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.

[email protected]