رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«اللا أمكنة».. مارك أوجيه

لا شىء يقع خارج الأمكنة، فنحن نولد فى منطقة محددة، ونتلقى العلم فى مدرسة بعينها، ونتزوج، ونلد، ونعمل فى نطاق أمكنة بالذات. كل ما يجرى من أحداث فى حياة الإنسان مرتبط بمكان محدد، والمكان يتسع ويمتد من البيت إلى الشارع إلى المدينة فالوطن.

ويقدم المفكر الفرنسى «مارك أوجيه»، فى كتابه «اللا أمكنة» ترجمة د. ميساء الصوفى، تعريفًا للمكان بأنه مفهوم وثيق الصلة بهوية الإنسان وتاريخه وعلاقاته، ولذلك أقول «أنا مصرى» أو «سورى» أعنى هويتى وتاريخى الذى خلق فى موضع معين.

إلا أن «المكان» عند «مارك أوجيه» يضيق كلما اتسع، فقد أصبحنا فى عصر تقلص فيه كوكبنا الأرضى إلى حد هائل، بعد أن اكتشف الإنسان كل شبر فيه، ثم تقلص كوكبنا بعد البدء فى اكتشاف الكواكب المحيطة وخطو الإنسان فى الفضاء، هكذا أصبحت الكرة الأرضية نفسها صغيرة مع اتساع الكون أمامنا، بعد أن اختصرت وسائل النقل الحديثة المسافات، ولم تعد أى عاصمة تبعد عن أى عاصمة أخرى سوى ساعات محدودة، اتسع المكان بحيث أصبح صغيرًا، وصرنا عبر شاشات التليفزيون نتابع حتى أصغر الأحداث فى أقصى طرف بالأرض.

ويطرح «مارك أوجيه» فى ظل الحداثة العصرية مفهومًا آخر باسم «اللا أمكنة»، وهى عنده الإنشاءات التى تفرضها الحياة الحديثة مثل المطارات والطرق السريعة والجسور ووسائل النقل والمجمعات التجارية الكبرى والسلاسل التجارية «مول سنتر» والفنادق والنوادى وماكينات صرف النقود وحتى القطارات والطيارات.

ويقول «مارك أوجيه» إن تلك «اللا أمكنة» مقياس العصر، وفيها تكاد أن تنعدم العلاقة التاريخية بين الإنسان والمكان، لأن العلاقة «اللا أمكنة» تكون من طرف واحد، تحددها لك الأمكنة باللافتات التى ترشدك: «ممنوع التدخين»، و«اتجه إلى اليمين إلى الصالة الكبرى»، إلى آخره.

كما أن الذاكرة البشرية وهى تؤرشف لتلك الأماكن تضعها فى موضع معين على الهامش، بعيدًا عن هوية الإنسان التى ترتبط تاريخيًا بالمكان، «اللا أمكنة» التى تغرق العالم من حولنا لا يربطها شىء بثقافة الإنسان أو تاريخه أو هويته.

وهناك أيضًا ما يسميه الكاتب «عكس الأمكنة» وهى تلك التى نتخيلها ولا نراها، كما يحدث حين نتخيل بلدًا بعيدًا لم نره قط. ولذلك يستدعى «مارك أوجيه» أعمالًا أدبية تناولت مفهوم المكان، وعلاقته بالزمن بصفتهما فعليًا وحدة واحدة، لأن الزمن هو النهر الذى تجرى فيه الأماكن، كما أن الأماكن هى الأزمنة وقد تجمدت.

وبشكل أو بآخر فإن «اللا أمكنة» تخلق الاغتراب الإنسانى، لأن علاقة الإنسان بها هى «علاقة الانفصال».

وبهذا الصدد أتذكر أننى قمت برحلة فى الثمانينيات إلى باريس، وأخرى إلى روما، ولكننى رغم إقامتى فى كل مدينة عشرة أيام، لا أكاد أذكر شيئًا من المدينتين سوى صور من الخارج، شوارع بلا معنى وأبنية بلا مغزى وقد يعود ذلك لافتقاد العلاقة والتفاعل مع المكان.

يطرح «مارك أوجيه» فى كتابه مفهوم المكان بالمعنى الفلسفى، رغم أنه أصلًا عالم «أنثروبولوجيا»، أى أنه إخصائى فى تاريخ علم الإنسان أو ما يعرف بدراسة السلالات البشرية على ضوء التاريخ الثقافى والعلوم الاجتماعية، والبيولوجية، لكن ثقافته الفلسفية والأدبية الواسعة تمكنه من اقتحام عالم الفلسفة باقتدار كبير.