رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إعلان زواج.. خطيئتى.. فنجان من الغيب المحوج (قصص قصيرة)

1. إعلان زواج:
ن. ش: امرأة سافرة الأشعار والوجه والأسرار.
السـن: عمر البحار الحالمة بالمد.
الديانة: اتساع السماء.. عـدالة توزيع الفرحة على البشر.. حكمة الأشجار.
الجنسية: كل أرض تمنح الأطفال اسم الأم وتأخذ الغِناء مأخذ الجد.
المؤهلات:
أعلى شهادات التفلسف.. إجادة تامة لهمس القمر.. خبرة بأحوال الزهور.. شوق نهم لتحدى القدر.
الهوايات:
التدبير العقلي والعزلة والاستغناء.. السباحة فى الماء وعلى الصفحة البيضاء.. مقاومة تحيز اللغة للذكور.
الحالة الاجتماعية: متزوجة من البحر والقلم والهدوء والصمت والألم.
العمل: استخراج الكنوز من مناجم الكلمات.
ترغب في الزواج من رجل:
على فن.. عقله رحب كالسماء.. ليست لديه مقدسات إلا عيشة الحرية.. يفعل العدل لا يتحدث عنه.. لا يخجل من البكاء.. تكفي رقته لتحمل تفاهات وحماقات البشر.. لا يرضى بأنصاف الحلول.. مستعد للمشاركة في صـداقة الخطر.. يستمتع بالوحدة.. يحب الموت كما يحب الحياة.. لا تزيد سنه عن الحد الذي يسمح له بالتمييز بين فعل الخير لوجه الله وفعل الخير لدخول الجنة.. رشيق القوام.. هادئ الصوت والحركات.. يعشق مع المرأة لذة الحوار.. يتحمل تناقضات برج الحمـل.. لا يستخدم مزيلات لرائحة العرق.. ورائحة الحنين.. لا يبوح بسره إلا للخيل وعزف العود والكمان.. يجيد السباحة والإنصات وطرح الأسئلة.
شروط خاصة: العصمة في يد مواسم المطر.
يُفضل منْ يكون الابن الوحيد في أسرة أصلها من الريف.. يسحره صوت أسمهان.. ومن يؤمن أن الزواج شر يمكن تجنبه.
أرسلت "ن. ش" الخطاب إلى الجريدة، لكنهـا تنبهت إلى أن رجلاً بهذه الصفات.. لا يقرأ ما تنشره الجرائد والمجلات في باب "إعلان زواج".

2. خطيئتى
وجه العالم ملطخ بالدماء، فلم أُبال هل أنا مخطئة أم أني على صـواب؟
أيًا كانت خطيئتي الليلة، فأين تذهب وسط خطايا العالم؟
خطيئتي- في أسوأ الأحوال- يمكن أن تجد الأعذار وهناك ألف وسيلة للتكفير عنها، بدءًا بتكرارها وانتهاءً بالانتحار، أما خطايا العالم فقد تجاوزت قدرات الآلهة على الفهم والغفران، لم يبق على بدء خطيئتي إلا دقائق.
الشمس تودع النهار الفاضح لما تخفيه القلوب المغلقة والبيوت الموصدة وبرقة تداعب الليل ساتر الخطايا، أرتب الأشياء بشكل يلائم ممارسة الخطيئة.
يأتيني صوت "النيل" صديقي: تمهلي.. لا تخطئي، ما لك يا "نيل" وما لي.. ألم تجد سوى خطيئتي لتقول فيها كلمتك، وماذا عن خطايا العالم لِمَ تصمت بشأنها؟ دعني وخطيئتي.
يأتي صوت أعشقه من العالم الآخر في شجن يغني:
إن أتيت الروض يومًا لا تلمني
فعلى الشوك مشيتُ
إن جنيتُ الورد عفوًا لا تلمني
فمن العطر انتشيتُ
نعم لا تلمني 
لا تلمني يا مَنْ علمني فنون العشق وتركني دون اختبار
لا تلمني
يا مَنْ سخر من حديث الأبراج وتحدى حركة الكواكب وعلوم الفلك وبلمسة واحدة أكد أن لقاءنا ذروة اشتياق الأقدار.
نعم لا تلمني لو ذقت الليلة طعم الخطيئة، لو الليلة فقدت- حتى الثمالة- ذاكرتي، فما أهمية امرأة فاضلة في عالم لا يأمر بالفضيلة؟ ما فائدة امرأة تمشي على الصراط المستقيم في عالم مُعْـوَج؟ وهل من الحكمة أن أحتفظ بذاكرتي في عالم لا يتعظ من الماضي؟
لا تلمني بل بارك خطيئتي، فالليلة ينتهي عداء العالم، الليلة يحدث أخيرًا الانسجام بيني وبينه، الليلة سأتكلم بلغته وسأرقص على إيقاعه.. فهنيئًا لي.
نعم لا تلمني، حذار أن تفعل ولو فعلت فكن على يقين أنك قد تأخرت كعادتك وفات الأوان، خمس دقائق ويدق جرس خطيئتي.
كم وددت أن يداعب ضوء الشموع عينيك أنت.
أربع دقائق ويدق جرس خطيئتي.
كم وددت أن تسكرني رائحة أنفاسك أنت.
ثلاث دقائق ويدق جرس خطيئتي.
كم وددت أن أحلق في سمائك أنت.
دقيقتان ويدق جرس خطيئتي.
كم وددت أن أمطر على أرضك أنت.
دقيقة ويدق جرس خطيئتي.
كم وددت أن أفك شفراتي على صدرك أنت.
نصف دقيقة ويدق جرس خطيئتي.
كم وددت أن أغني بين شفتيك أنت.
ربع دقيقة ويدق جرس خطيئتي.
كم وددت أن أرتشف الكأس المثلج  بين يديك أنت.
نعم أنت.. أنت ولا أحد سواك.
انتهى الوقت.. أين أنت؟ أين؟ أين؟
دق جرس خطيئتي ..أظلمت الدنيا من حولي.

3. فنجان من الغيب المحوج:
أعشق المجهول وأعشق البن المحوج، فكيف لي أن أقاوم امتزاجهما في فنجان قهوة يرتشف خيوط الغيب؟
أعشق المجهـول وأعشق البن المحـوج، فكيف لي ألا أمتثل لأوامر عرَافة ذائعة الصيت في قلب موازين الكون وحقائق القلوب، اختارتني من دون كل نساء الجلسة لتكشف عني الحجاب وتطلقني فضيحة معلنة الأسرار؟
نظرت العرَافة إلي من بعيد.. ارتعشت ذبذبات الهواء.. ارتبكت الرشفة الأخيرة.
سألت العرَافة: منْ تكون تلك الصامتة الشاردة ذات الشعر مختلط الألوان المسافر في كل اتجاه؟ منْ تكون تلك المختبئة وراء الثوب الأسود المرصع بآخر حكمة مرسلة إلى البشر؟ بإشارة واحدة واثقة من يدها اليمنى المحاطة بأساورمن ذهب.
طلبتني، كمنْ أصابتها مس من السحر، ذهبت طوع إشارة يدها وكيف كان لي البقاء حيث أنا؟ وهي العرَافة ما استحضـرت غيبًا إلا وجاءها راكعًا يتوسل أن تفتح أبوابه السرية وما لمست فنجانًا إلا واستسلمت شفراته بين يديها المنقوشتين بالحناء.
جلست بجانبها، أرسلت نظرة نفذت من أعماقي إلى فنجان قهوتي .
قالت: كلهن طلبن أن أقرأ لهن الفنجان إلا أنتِ، كلهن يثرثرن بصخب يضحكن، يدخن إلا أنتِ، كل منهن بصحبة أحد إلا أنتِ.
اقتربت أكثر وسألتني: من أنتِ؟
قلت: امرأة وحيدة تعشق المجهول والبن المحوج.
قالت: وتعشق اللون الأسود.
ترد ابتسامتي: نعم.
أصبحت نظرتها أكثر عمقًا: منذ زمن وأنا أبحث عنك.
تسألها دهشتي دون كلام: عني أنا؟
قالت: نعم يا ابنتي، فمنذ زمن وأنا أبحث عن آخر عاشقات الوحدة والصمت واللون الأسود.
تشرد لحظات وتستطرد: يطلبني الجميع لكشف خبايا الغيب، لم يحدث أبدًا أن طلبت أنا قراءة أسرار أحد، معك أنت يا ابنتي لا مفر ولا اختيار، منذ زمن وأنا أبحث عن غيب أستأذنه، منذ زمن وأنا أبحث عن فنجان أرجو اعترافاته.
ناولتها فنجاني، قالت العرَافة: لا ليس هنا لست أنتِ بالتي تكشف أسرارها وسط العيون حتى لو حاولت فنجانك عنيد لن يستسلم.
أخذت يدي، دخلنا إلى ممر طويل معتم لا يضيئه إلا نور عينيها السوداوين وبريق دهشتي، وانتهينا إلى حجرة خافتة الضوء تفوح منها رائحة البخور ورائحة المجهول حين يشتاق إلى أن يصبح معلومًا .
تسللت- ذائعة الصيت في قلب موازين الكون وحقائق القلوب- إلى فنجان قهوتي، بقيت هناك انتظرتهـا لا يؤنسني إلا ارتعاشاتى وشدو الكروان الحزين وعشم في رحمة الغيب.
خرجت العرَافة من بقايا البن المحوج الملتصق بفنجان قهوتي، يتصبب منها العرق.
قالت: اسمك ذروة الأحلام.. عقلك كالهواء مخاطر أبدأ في الأجواء.. قلبك يا ابنتي كالماء، الإمساك به درب من المحال، وحيدة أنت وستظلين حتى الرمق الأخير، أميرة أنت بالفطرة لكنك- عكس كل الأميرات- لا تنتظرين الأمير، أنت في عشق محرم مع البحر من أجله تتحملين مشقة الأسفار ولوم البشر من أجلك لا يبالي بغضب الأمواج واحتجاج الأسماك 
أمامك بعد ثلاث نقاط سكة سفر على قضبان من حنين، تعودين منها في ليلة قمرية، النفس هادئة والمحال أسير، سيحبك رجال كثيرون كلهم يا ابنتي مخطئون فأنتِ لا تبحثين عن الحب عن الدهشة تبحثين عن الخطر وعن الجنون، هذا قدرك يا ابنتي إياك منه والهروب، ستعيشين وتموتين بكرًا، حتى لو عاشرت رجال الأرض وتزوجت ألف مرة فسوف تُزفين إلى السماء زهرة عذراء، خضراء واقفة مثل الأشجار، ليس لك أعداء إلا غرور البشر وحماقات الناس، لا تخافين إلا أصواتهم الخشنة وعقولهم الهشة ليس لك أصدقاء يا ابنتي إلا زهور البنفسج، اللون الأسود وهمس الدهشة، ثوب أسود وصفحة بيضاء.
بعد سبعة أيام سيزورك هاتف في المنام، لا تردي له كلمة واتبعيه دون سؤال، سيهديك باقة ورد صفراء خذيها وحذار التفريط فيها.
ميلادك كان في الربيع، لكن رحيلك شتاء، تلهثين إلى الفرح وأكثر إلى البكاء، بينك وبين يوم الأحد ود غامض، أسعد أيامك السبت والأربعاء.
احذري أيام 8، 18، 29 من كل شهر، لا تقابلي أحدًا لا تتناولي إلا الماء والخبز الجاف ولا تنامي إلا بعد الفجر، وفي أيام 10، 13، 17، 19، 22، 27، 30، 31، تُفتح لك أبواب السماء، فافعلي ما يحلو لك واطلبي ما تشائين، وحين يهل الشهر الأخير من العام انتظري مفاجأة داخل خطاب وردي اللون معطر بالياسمين يصلك ليلة الحادي والعشرين.
عمرك يا ابنتي قصير، فلا تضيعيه في التردد والأوهام لا تهدريه في الانشغال بما ليس تحت سيطرتك، تذرعي بالصبر يا ابنتي، ففي الأفق الرمادي البعيد تحت السحابات جرح لا يلتئم وأحزان لها من العمر ألف عام.
الفرح خطيئة نبيلة لا تهبك أسرارها إلا حين تمسكين بالقلم وتحطين على الورق، نفسك الأخرى في عالم آخر.
رحلت العرَافة ذائعة الصيت في قلب موازين الكون وحقائق القلوب، تُرى هل ما زلت أعشق المجهول وأعشق البن المحوج؟
من بستان قصائدى:
لأننى لا أؤمن إلا بالقضايا الخاسرة
حزمت حقيبتى وأحزانى ومأساتى
وإليك مسافرة