رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من دفاتر الحرب والحب

كان التليفزيون المصرى يحتفل بذكرى مرور عشرين عامًا على حرب أكتوبر المجيدة.. وفى هذا السياق كانت هناك مقابلات تجرى مع شباب تمت ولادتهم فى السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣.. أى فى نفس اليوم الذى قامت فيه الحرب ضمن حلقات تعرض عن حرب أكتوبر.

ومن ضمن المقابلات كان هناك لقاء مع فتاة ولدت فى نفس اليوم من ذات العام وأمها، وتحدثت الأم عن أن زوجها كان يعمل صحفيًًا، وذهب لتغطية الحرب على جبهة القتال ولكنه لم يعد، فهو مفقود لم يبلغها أحد باستشهاده أو أسره، وبمجرد ولادة ابنتهما حتى غادر بعدها بأيام قليلة لتغطية الحرب التى اندلعت فجأة، وبالتالى الفتاة التى عاشت يتيمة لم تعرف أباها غير من الصور، وكانت الأم تتحدث بحنين شديد وصورة زفافها فى الخلفية، كما أنها عرضت صورًا أخرى خلال الحلقة لزوجها الصحفى البطل، وقالت إنها حتى اللحظة لا تعرف عنه شيئًا، هل هو عايش أم ميت؟، ولكنها فى قلبها ما زالت تنتظره وتشعر أنه سيعود يومًا ما، وحكت الأم عن طباعه وصفاته، وكيف كان رجلًا لا يعوض، لأنه شجاع وطيب القلب وخلوق وهادئ، وأنها عاشت معه فترة قصيرة هى أجمل أيام عمرها.

كنت صغيرة جدًا فى هذا الوقت ولكن هذه القصة أوجعتنى وتأثرت بها بشكل كبير، حتى إننى بكيت من حديث الأم عن زوجها الصحفى الذى لا تعرف عن مصيره شيئًا، وما زال عندها أمل كبير فى عودته، حتى بعد مرور عشرين عامًا، أتذكر تمامًا هذا الشجن فى صوتها والدموع فى عينيها وفخرها به وهى تحكى عنه.

وهذه الفتاة التى صارت شابة عمرها عشرون سنة ولم تر أباها، ما زلت أذكر هذه القصة رغم مرور السنوات الطويلة وما زلت بنفس التأثر بها، وقد جعلتنى وقتها أبحث عما حدث فى هذه الحرب، بعيدًا عن كتب المدرسة وأفلام التليفزيون التى تحكى عنها، وعلمت بقصة أخرى كان بطلها ضابطًا فى الجيش، وكان قد تمت خطبته على فتاة جارته، وكانت تجمعهما مشاعر حب قوية، وبعد نكسة ١٩٦٧ لم يستطع إتمام الزواج، حيث كان دائمًا متواجدًا على الجبهة، ورغم مرور عدة سنوات لم تفسخ الفتاة الخطبة، رغم ضغط أهلها عليها لتفعل ذلك، ولكنها أصرت على انتظاره، وبعد قيام حرب أكتوبر وكان قد مر على خطبتهما ٧ سنوات، استشهد الضابط فى الحرب، والغريب فى القصة أنها لم تتزوج بعده أبدًا، وظلت هكذا حتى وفاتها فى الثمانينيات. 

وكان شغفى وتعلقى بحرب أكتوبر كبيرًا، خاصة أنه على الجانب الآخر وعبر نشرات الأخبار فى هذا الوقت هناك دول فى المنطقة تم احتلالها فى ذات اليوم الذى احتلت فيه سيناء، ولكنها ما زالت أسيرة وحواديت الحياة المريرة فيها تملأ الأركان، حيث يعيش أهلها حياة غير مستقرة وبين النيران، ونحن رجعنا أرضنا.

وقد شعرت كذلك أن الحروب ليست فقط حديثًا عن الكر والفر والأسلحة وبطولات الرجال، وإنما عن الحب أيضًا.. وأن كل بطل فى حرب ترك خلفه حكاية حب تعيش وتستحق أن تروى، وقد قرأت وعلمت الكثير والكثير عن قصص أخرى لأبطال شهداء على جبهة القتال، منهم من ذهب وهو عريس لم تمضِ على فرحه ثلاثة أيام ولم يعد، وآخر ترك زوجته وهى حامل ولكنه استشهد قبل ولادتها، ومن كان وحيد أمه وأبيه وسندهما الوحيد فى الدنيا وفى يوم انتظار عودته جاء من يخبرهما باستشهاده، علمت أنه تقريبًا كل بيت فى مصر فى الفترة ما بين عام ١٩٦٧ وعام ١٩٧٣ كان لا يخلو من شهيد أو أسير أو مفقود، وأدركت أن الشهادة والقتال ليست هى الثمن الوحيد الذى يدفع فى الحروب.

الأرامل والأيتام والأهالى المكلومون الذين عاشوا ما تبقى من عمرهم فى ألم وحسرة، هو أيضًا ثمن فادح للحرب، ولكن هكذا الحروب يكون القتال فيها على كل الجبهات حتى يتحقق الانتصار، والأهم فيها مشروعيتها وأن تكون حربًا شريفة، والدفاع عن الوطن واسترداده من محتل يستحق التضحية بكل شىء لأنه قمة الشرف، لأن الوطن ليس حفنة من تراب أو مساحة أرض، وإنما هو كرامة وعرض وأمان، هو تاريخ ومستقبل ووجود، والمصريون منذ عهد الفراعنة يجعلون كل من يقترب من وطنهم يحترق، وهذا هو العهد الذى أخذه الجيش المصرى العظيم، من يقترب يحترق، يحترق ببسالتهم وقوتهم وشجاعتهم فى القتال، يبذلون أرواحهم وحياتهم من أجل الوطن والشعب الذى ينام ليله، لأنه يدرك تمامًا أن خلفه جيشًا يحميه ويضحى بكل شىء من أجله. 

ورغم مرور ٤٩ عامًا على حرب أكتوبر، إلا أنها ما زالت معجزة بكل المقاييس.. وهى اليوم الأهم فى تاريخ مصر الحديث، والانتصار الأول للعرب على إسرائيل، وبعد سنوات من الحرب كانت هناك محاولة فاشلة من مجموعات صغيرة وضعيفة ولكنها غادرة وماكرة تسمى التكفيريين أو المجاهدين أو أى اسم فلا فرق، لأنهم جميعًا عناصر إرهابية وقتلة، للاستيلاء عليها وجعلها ولاية إسلامية مثلما فعلوا فى بلدان أخرى، ولكنهم أيضًا احترقوا بنيران الجيش المصرى، ولن يكون لهم وجود على أرضنا، لأن روح حرب أكتوبر ما زالت باقية ولن تغيب.