رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يا حبيبي.. يا محمد

باعدت الأيام بيننا وبين عهد النبوة وفي الطريق ضل كثير من الناس عن تحقيق مراد الله - إلا من عصمهم ربهم - بسلوك طريق الحق والخير والجمال الذي أراده لنا المولى، وانقسم الناس في هذا شيعًا وآحادًا بين مفرط تجاهل العهد والميثاق بالكلية، ومتزمت نفّر الخلق من جوهر الدين وسماحته.
وبقى قليل من الناس - أدعو الله أن تكونوا وأن نكون منهم - يلتزمون بالوسطية، وأدركوا أن الدين يسر وهو في ذات الوقت والحين متين ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه.
وتبقى لنا السيرة العطرة للحبيب المصطفى نهرًا فياضًا ننهل منه فلا نمل، ونرتوي فلا ينقص، فما أروع سيرته وما أرقى خلقه وما أعظم مواقفه، أتذكر برنامجًا إذاعيًا كان يقدمه الراحل متولي درويش ينقب فيه بين كتب السيرة النبوية المشرفة عن مواقف خالدة من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلقيها بصوت تميزه التقوى ويعلوه الخشوع فتخترق قلوب مستمعيه قبل أسماعهم، أتذكر بعضًا مما تعلمناه منه ومن غيره في سيرة الحبيب محمد ونحن نحيي ذكرى مولده الشريف.
إنها أخلاق عظيمة تلك التي دعانا لها الحبيب - صاحب الذكرى - لو اتبعناها اليوم والله لن نشكو همًا من هموم الدنيا ولن نخشى خذلانا في أمر الآخرة، فاتصف صلى الله عليه وسلم بالرفق وقد ظل يدعو إليه أمة اتسمت بالغلظة والقسوة حتى على فلذات أكبادها لدرجة أنهم كانوا يجهزون على حياتهم أو بالأحرى حياتهن في المهد صغارًا.
فغيّر بدعوته بل وبسلوكه طبائع أمته فتبدلت من الشقاوة رأفة وحنانًا، فصاروا لا يترفقون فقط بحيّهم ولكن بجثة ميّتهم أيضًا وكيف لا ورسولهم قد علمهم أن الله تعالى يحب الرفق في الأمر كله، ولم تكن دعوته مجرد أقوال فهو الذي عفا عن قومه وطلب لهم العفو حين خيّره الله بين أن يطبق عليهم الأخشبين (جبلين بمكة) فأبى أملًا أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به أحدًا.
وكم من المواقف التي تشي بحلم النبي ورفقه ولينه كموقفه مع هذا الأعرابي الذي بال في المسجد وحاله مع ذلك الشاب الذي أتاه يستأذنه في السماح له بالزنا، ليس هذا فحسب فحتى من هاجمه وانتقده قائلًا له وهو يقّسم الغنائم يوم حنين: أعدل يا محمد، فاكتفى النبي بقوله له: ويلك إن لم أعدل فمن يعدل ورفض النبي أن يعاقبه الفاروق عمر، وموقفه يوم قال لأهل مكة حين فتحها: لا تثريب عليكم اليوم أذهبوا فأنتم الطلقاء.
حتى الحيوان كان له نصيب من رفق النبي بتوجيهه لأتباعه: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة (أي في القصاص) وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وليُحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته".
ولم يترك الرسول الحياة الإجتماعية لأتباعه دون أن يوجههم لما يحفظ لهم بيوتهم ويديم استقرارها وترابطها، فهو القائل: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وخياركم خياركم لنسائهم"، وهو - بأبي وأمي- رمز التواضع الإنساني بقوله: "إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله"، وحين جاءه رجل فارتجف وفزع مهابة له فقال له: "هوّن عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد" وهو اللحم المخزن.
وهو الذي أمر أمته بحسن الخلق ورغّبهم في ذلك وحفّزهم عليه بقوله: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا".
وفي وصف الإمام علي كرم الله وجهه للحبيب قوله: "كان أوسع الناس صدرًا وأصدق الناس لهجة وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه" ومن صفاته صلى الله عليه وسلم أنه كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخّاب ولا فحّاش ولا عيّاب ولا مدّاح.
ما أجمل عشرته بين أهله إذ كان فيما روته أم المؤمنين عائشة يخيط ثوبه ويخصف نعله، وكان لا يتكلم إلا فيما يعنيه وكان إذا مر بالصبيان سلم عليهم وما خير في أمرين إلا اختار أيسرهما، وأوصى بالضعفاء فقال: "هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟" وما أعظم تواضعه حين كان لا ينزع يده من يد مصافحه حتى ينزع الرجل يده أولًا ولا يصرف وجهه من وجه الرجل حتى يكون الرجل هو من يصرفه.
والله ما أحوج مجتمعاتنا إلى خلق الحبيب المصطفى محمد وسيرته العطرة، وما أشد رغبتنا في أن نقتفي أثره وأن نذكر أنفسنا ونعلم أطفالنا بعضًا من مواقفه وسلوكه، فقد غلبت على الإنسانية شقوتها وكأن البشر صاروا يحملون قلوبًا من حجارة أو حديد. فلا أرى والله نهضة نرجوها ولا رفعة نتمناها ولا رقيًا ننشده إلا بعودتنا للخلق القويم الذي دعانا إليه النبي محمد، بما في ذلك حسن المعاملة مع شركاء الوطن أو المختلفين معنا في المعتقد فإن لهم من الحقوق كما عليهم من الواجبات ما يضمن سلام المجتمع وأمنه ونهضته.