رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن الأذان.. والعبور العظيم والشيخ محمد أحمد شبيب

من حسن حظنا، وفرة الأصوات العظيمة فى فن تلاوة القرآن فى مصر، ولو طُلب منى أن أختار عشرين صوتًا من الراحلين يمكن الاعتماد عليهم فى رفع الأذان فى المساجد ضمن خطة الأذان الموحد التى اعتمدتها مؤخرًا وزارة الأوقاف، سأفشل لا شك، لأننا أمام حديقة مترامية الأطراف، تم اختيار الأكثر شهرة، وهذا طبيعى، فمَن منا لا يحب أصوات المشايخ: محمد رفعت والنقشبندى وعبدالباسط عبدالصمد ومحمد صديق المنشاوى ومصطفى إسماعيل ومحمود على البنا وعبدالعظيم زاهر، الذين يبعثون الطمأنينة والسلام وهم يدعون الناس إلى الصلاة، ومن الأصوات المدهشة التى أفرح حين أسمعه هذه الأيام صوت الشيخ محمد عمران، لأنه صوت حنون وقوى، يوجد به خضرة وطراوة وطيبة وصدق ومحبة غامرة، وأنا سعيد باعتماد الأذان الموحد رغم فتاوى بعض المشايخ، وأتمنى أن تتم الاستعانة بآخرين من رموز مدرسة التلاوة المصرية، ليس فقط بسبب مسيرتهم العظيمة، ولكن لكى يستطعم الناس حلاوة أصواتهم، فعندك محمد بدر حسين ومنصور الشامى الدمنهورى وشعبان الصياد ومحمد عبدالعزيز حصان والشحات محمد أنور وعبدالعزيز على فرج ومحمود عبدالحكم ومحمد أحمد شبيب، والأخير له منزله خاصة فى قلبى، وقبل أن أتحدث عنه، علينا أن نتذكر الشيخ على محمود، صاحب الفضل الكبير على كل المؤذنين، فهو المعلم والملهم، وكان قبل اختراع الميكروفون يعتلى مئذنة مسجد سيدنا الحسين، ليؤذن فيُسمع من باب الفتوح إلى بوابة المتولى. وبلغ من عبقريته أنه كان يؤذن للجمعة فى الحسين كل أسبوع أذانًا على مقام موسیقى لا یكرره إلا بعد سنة، وكان أذانه وما يتبعه من التسابيح التى تُتلى قبيل صلاة الفجر فى الحرم الحسينى، وراء امتلاء منطقة الحسين وما حولها بجموع من البشر يوميًا للاستماع إليه، لدرجة أن الشيخ عبدالعزيز البشرى كتب «إن صوت الشيخ على محمود أحد أسباب تعطيل حركة المرور فى الفضاء، لأن الطير السارح فى الفضاء يتوقف إذا استمع إلى صوته»، كانت بطانته مكونة من المشايخ العظام طه الفشنى ويوسف كامل البهتيمى وعبدالسميع بيومى، وسارت على نهجه بعد رحيله، هو الذى وضع الأساس النغمى للأذان الذى تبدع فيه الأجيال المتتالية إلى أن وصلنا إلى أصغر تلاميذ هذ المدرسة، وهو الشيخ ياسر الشرقاوى القادم من حديقة هذه المدرسة، أما سبب اختيارى للشيخ شبيب فهو الاحتفال معه بنصر أكتوبر العظيم الذى يحل علينا غدًا، لأن أحد ألقابه أنه قارئ العبور الذى قرأ آيات بعينها من سورة آل عمران فجر يوم ٦ أكتوبر ١٩٧٣، كان يتميز، كما كتب المتخصصون، بدقة الأداء القرآنى وسلامة الأحكام، وحسن التبصير بمعانى الآيات، وجمال الصوت، فى سبيكة ذهبية قلّ نظيرها، هو من مواليد قرية دنديط مركز ميت غمر بالدقهلية سنة ١٩٣٤، وتخرج فى الكتاتيب التى كانت منتشرة فى كل ربوع مصر، التى منحتنا هذه العزوة من المقرئين الذين نتباهى بهم، كان مفتونًا بالبهتيمى والشعشاعى ومصطفى إسماعيل، بعد تجويده القرآن ومعرفة أحكامه عام ١٩٥١، أراد والده أن يلحقه بمعهد القراءات فى القاهرة حتى يصبح قارئًا محترفًا، ولكن الشيخ رفض حياة الغربة، وفضل الالتحاق بمعهد الزقازيق الدينى. حكى شبيب فى حوار معه قائلًا: «ذات ليلة كان الشيخ مصطفى إسماعيل يقرأ بمدينة منيا القمح، وبعد انتهائه من التلاوة انفض الناس ولم يتبق فى السرادق إلا عدد قليل، وفوجئ الحاضرون بصعودى إلى دكة القراءة، لأقرأ ما تيسر من القرآن، وإذا بالسرادق يمتلئ مع مرور الوقت حتى وصل الحاضرون إلى نفس العدد الذى كان يستمع للشيخ مصطفى. وكانت هذه الليلة بمثابة شهادة ميلاد لشهرتى»، ليلة العبور انطلق صوته يشق الظلام من خلال الميكروفونات فى سرادق قصر عابدين. والمثير للدهشة أن التلاوة كانت بمثابة نبوءة لما سيحدث بعد ساعات من ذلك، بدأ الشيخ تلاوته من منتصف الآية ١٥٤ من سورة آل عمران «قل إن الأمر كله لله» ثم قرأ «ولئن قتلتم فى سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون. ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون».

كان يشعر كما قال فى حديث صحفى بعد ذلك «أن حدثًا عظيمًا» تهتز له الدنيا سوف يقع، بين وقت وآخر، وبالفعل حدث العبور العظيم، وكتب وسيم عفيفى أن شبيب لم يكن يدرى أن ما قرأه كان بالاتفاق مع عبدالعزيز محمد عيسى «وزير شئون الأزهر وقتها»، بتوجيه من الإمام عبدالحليم محمود «شيخ الأزهر وقتها»، قرأ الشيخ شبيب فى عدة دول أوروبية، منها إيطاليا وفرنسا. كما زار الشيخ عددًا كبيرًا من الدول العربية والإسلامية للقراءة فيها بدعوات خاصة، منها قطر عام ١٩٨٢، وأبوظبى بالإمارات عام ١٩٨٦ والجابون عام ١٩٨٧، فى عام ١٩٩٤ قررت وزارة الأوقاف إيفاد الشيخ شبيب إلى إيطاليا لإحياء ليالى شهر رمضان بالمركز الإسلامى فى روما، ولكنه اعتذر، مفضلًا البقاء فى مصر، قبل حلول رمضان بيوم واحد، أبلغته وزارة الأوقاف بأن الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات دعاه لإحياء ليالى الشهر رمضان فى المسجد الأقصى المبارك، فلم يتردد فى قبول الدعوة، قرأ يوم «الجمعة اليتيمة» بالمسجد الأقصى وسط ما يقرب من نصف مليون فلسطينى يتقدمهم الرئيس عرفات. وقرأ نفس التلاوة التى قرأها يوم العبور عام ١٩٧٣ من سورة آل عمران، وظل يكرر قول الله تعالى «إن ينصركم الله فلا غالب لكم» أكثر من عشرين مرة بناء على رغبة الفلسطينيين، بعد انتهاء التلاوة كرّمه الرئيس عرفات بمنحه شهادة تقدير ونيشان السلطة الفلسطينية، تقديرًا لدوره كأول قارئ يتلو القرآن بالمسجد الأقصى بعد العودة، فى عام ١٩٥٧ قرأ شبيب فى مأتم مهيب بمدينة المنصورة، مع الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى، رئيس رابطة القراء وقتها. وكان العزاء يضم نخبة كبيرة من كبار رجال الدولة، هنأّه الشعشاعى «وما أدراك بالشعشاعى؟» فى تلك الليلة على حسن الأداء، وبشّره أمام جميع الحاضرين بمستقبل عظيم. وكانت هذه الشهادة بمثابة جواز مرور للشيخ شبيب إلى مناسبات كبار العائلات فى الوجه البحرى، قرأ شبيب بعد ذلك فى المحافل مع كبار القراء، منهم الشيخ محمود على البنا وعبدالباسط والطبلاوى وزاهر والبهتيمى، تقدّم شبيب للإذاعة فى مطلع عام ١٩٦٤، وتمت الموافقة على طلبه، لكنه طلب تأجيل اختباره ستة أشهر، بعدها اعتُمد قارئًا بالإذاعة بعد اجتيازه الاختبار بنجاح، توفى الشيخ شبيب فجر يوم ٣ أبريل ٢٠١٢ فى منزله بقرية «دنديط» عن عمر يناهز ٧٩ عامًا، فى سابقة هى الأولى من نوعها، قامت إذاعة القرآن الكريم بنقل وقائع العزاء الذى أحياه مشاهير المقرئين على الهواء، نظرًا لمكانة الفقيد الكبيرة كأحد أهم القراء فى مصر والعالم العربى، وآخر حبة فى عنقود العمالقة الكبار.. ألف رحمة ونور على روحه.