رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صلاح حافظ يكتب: إحسان عبدالقدوس.. صاحب أكبر عملية إنقاذ للصحافة المصرية

صلاح حافظ
صلاح حافظ

الرجل الشجرة

كان صلاح حافظ «١٩٢٥-١٩٩٢» واحدًا من كبار آباء الصحافة المصرية، وواحدًا من كبار مظاليمها أيضًا.. كان من الجيل الذى تفتح وعيه بعد الحرب العالمية الثانية وأدرك ضرورة الاستقلال والتنمية، واختلفت اجتهاداته حولها.. دخل كلية الطب لينضم لجيل ذهبى كان من أفراده يوسف إدريس ومصطفى محمود ونوال السعداوى وفؤاد محيى الدين، رئيس وزراء مصر فيما بعد.. كلهم مستهم السياسة والثقافة والحلم.. اختلفت مصائرهم رغم أن البداية واحدة.. كان صلاح أسبقهم للصحافة والسياسة وأكثرهم رومانسية.. ذهب لروزاليوسف يعرض كتاباته فعيّنه إحسان عبدالقدوس بأعلى مرتب ممكن وقتها، وهو خمسة عشر جنيهًا كل شهر.. وعهد له بكتابة باب انتصار الحياة الذى صار أشهر أبواب الحياة المصرية لسنوات طويلة.. كان يبسط حقائق العلم بأسلوب بسيط ساخر.. فى ١٩٥٤ وفى الوقت الذى كان يوسف إدريس يغادر قطار السياسة كان صلاح حافظ يتورط فيه أكثر ويدخل السجن بحكم مشدد بالحبس ثمانى سنوات مستحقة.. فقد كان صلاح زعيمًا لتنظيم سرى خطير.. ووقف فى المحكمة يعترف بقيادته هذا التنظيم.. الغريب أنه استغل سنوات السجن فى القراءة والكتابة والترجمة وأنه خرج من السجن ليصبح رئيسًا للتحرير!! فقد كان مؤيدًا لثورة يوليو، راح ضحية لسوء التقدير.. تولى رئاسة تحرير آخر ساعة عام ١٩٦٤ وروى عنه أنيس منصور أنه سأله عن أثر السجن عليه، فرد قائلًا «انفعلت»..ولكنه مع ذلك واصل العمل والكتابة.. فى ١٩٧٤ تم تعيينه رئيسًا لتحرير روزاليوسف مع فتحى غانم ليبدأ تجربة صحفية تاريخية، ويصل بتوزيع المجلة لمائة وخمسين ألف نسخة، ويصبح الصوت الوحيد الذى يحذر من أخطار التحالف مع الإخوان والسماح لهم بالعمل.. كان صوتًا إصلاحيًا يؤيد الرئيس السادات ويرد الهجوم على ثورة يوليو وجمال عبدالناصر.. وكان يخوض معارك صحفية راقية للغاية مع موسى صبرى رئيس تحرير الأخبار لا تمنعهما من مواصلة الصداقة الشخصية والالتقاء بشكل شخصى ودورى!! حين وقعت مظاهرات يناير ٧٧ كتب يقول إن الحكومة أشعلتها والسادات أطفأها.. لكن حساسية السادات مما جرى كانت أكبر من أى مساحة اختلاف فى التفسير.. خرج من موقعه رغم النجاح الأسطورى ليشغل مناصب استشارية فى بعض الصحف العربية ويكتب مقالات ممتعة فى أخبار اليوم فى منتصف الثمانينيات.. دفع ثمن اعتزاله ووسطية مواقفه.. فالمتطرفون سياسيًا هاجموه واعتبروه مفرطًا فى مبادئ «الحنجورى»، ورئيس الدولة رآه مدافعًا عن المعارضة فعاقبه!! طلب منه د. أسامة الباز فى عام ١٩٩٢ أن يجد حلًا لتراجع مجلة روزاليوسف، فرشح تلميذه عادل حمودة لقيادة المجلة.. لتبدأ تجربة من أهم تجارب الصحافة المصرية فى تاريخها يدين لها الكثيرون بالفضل حتى الآن.. لم يمهله القدر ليرى عودة مجلته الأثيرة لمجدها وتوفى بالسرطان فى ١٩٩٢ والتجربة ما زالت فى بدايتها.. فى هذا المقال يروى كيف أنقذ إحسان عبدالقدوس مجلة روزاليوسف من التراجع فى نهاية الأربعينيات، وهو نفس ما فعله صلاح حافظ فى السبعينيات ثم فى التسعينيات من خلال تلاميذه.. رحم الله صلاح حافظ بقدر ما أعطى وبقدر ما أفاد وبقدر ما علم وبقدر ما زرع من أشجار نعيش تحت ظلالها حتى الآن.

                                                                                                                             وائل لطفى

أضخم «عملية إنقاذ» فى تاريخ الصحافة المصرية كان بطلها إحسان عبدالقدوس، ولكنه رفض دائمًا أن تنسب إليه، لأنه لم يكن يقصدها، وبرغم رفضه فإن التاريخ سيظل يحفظها له، وربما تحت عنوان:

عملية إحسان!!

أول محنة واجهت إحسان عبدالقدوس فى تاريخه الصحفى كانت يوم قالت له والدته السيدة «روز اليوسف»:

- روح هات أخبار!

لم يكن يعرف كيف يحصل على خبر، ولكن والدته اشترطت لكى تسمح له بالنشر فى المجلة أن يثبت صلاحيته لمهنة الصحافة. وأول شروط الصلاحية أن يحصل للمجلة على أخبار.

ولم يجد إحسان حجة يعتذر بها عن هذه المهمة، فمصادر الأخبار فى تلك الأيام كانت تتلخص فى رجال السياسة والحكم، وهو يعرف معظمهم منذ كان يحبو، ويخاطب بعضهم بلقب «عمى»، وهم الآن جميعًا فى الإسكندرية، وفى فندق واحد يجمعهم كل صيف: فندق «سيسيل» الذى كان عاصمة الدولة المصرية طوال أيام الحر، وما على إحسان إلا أن يسافر إليهم هناك، ويجلب ما يشاء من أخبار.

وسافر إحسان مرغمًا، ووحده لأول مرة، وبات ليلته وهو حائر لا يدرى ماذا سيفعل غدًا.

وفى الصباح التالى نزل إلى صالة الفندق وهو لم يعرف بعد ماذا سيفعل. وكان يستبد به- كما روى لى- إحساس طفل تاه فى مدينة الملاهى.

ثم فجأة وقع بصره على حسين سرى باشا «أو لعله أحمد ماهر، فقد نسيت»، وكان يجلس مع عدد من أقطاب الحكم حول مائدة الشاى، فاتجه إليه مترددًا، وما كاد الرجل يلمحه حتى رحب به، ودعاه إلى الجلوس معه. وتشجع إحسان فاقترب منه. وصافحه ثم قال:

- ماما بتسلم عليك وبتقول لك إدينى أخبار!

وانفجر الرجل ضاحكًا، وسرت العدوى إلى الجالسين معه. ووقف إحسان حائرًا لا يدرى كيف ينسحب من هذا الفخ الذى وقع فيه.

لكن سذاجته هذه كسبت قلوب الجميع، فإذا بهم يأمرونه بالجلوس، ويملون عليه رصيدًا هائلًا من الأخبار، ويتبارون فى تزويده بما لم تعرف الصحف الأخرى من الأسرار.

وعاد إحسان يومها إلى القاهرة، وقدم إلى والدته حصيلة من الأخبار تؤكد أنه مخبر صحفى موهوب بالفطرة، لكنه، فى قرارة نفسه كان يشعر بأنه سقط فى أول امتحان!

ثم كانت المحنة الثانية بعد سنوات عندما وافقت السيدة «روز اليوسف» على أن يتولى رئاسة تحرير المجلة.

فالمجلة كانت فى تلك الأيام تتدهور، وكان عليه أن يقفز بأرقام توزيعها عدة أضعاف، ولكن حرفة ترويج الصحف لم تكن حرفته، ولا كان يحبها، وأول تجديد أدخله على المجلة عندما رأس تحريرها لم يكن أبوابًا إخبارية أو تحقيقات صحفية. وإنما كان بابًا عنوانه «قصة قصيرة جدًا».. يكتب فيه كل أسبوع قصة أدبية خاطفة ورائعة.

وأذكر أنى فى تلك الأيام زرته مع زميل لى فى كلية الطب لكى نعبر له عن إعجابنا بتلك القصص. لكنه انزعج بمجرد أن جاءت سيرتها، وسأل بقلق حقيقى:

- هى بايخة؟

وفيما بعد، عندما عملت معه فى «روزاليوسف»، كان يسألنى كل أسبوع عن رأيى فى الحلقة التى نشرها من روايته، وعندما اعتذرت ذات مرة بأننى لم أقرأها أمسك بسماعة التليفون وأصدر أمرًا إلى إدارة الحسابات بأن تصرف لى أسبوعيًا مبلغ قرشين لكى اشترى المجلة وأقرأ القصة!

وأذكر أننى بعد أقل من شهرين من العمل معه، وأثناء حوار جاد معه قلت: باعتبارى صحفيًا فإننى أرى أن الـ... فإذا به ينسى موضوع الحوار ويقاطعنى محتجًا:

- لا تقل إنك صحفى!

- لكننى صحفى.

- لا! بل أنت كاتب. وأنا كاتب، ويجب أن نلتزم بهذا اللقب.

قلت: وهل الصحافة عيب؟

قال: لا. ولكنها ليست مهنتنا!

ومع ذلك.. فقد قدر لهذا «الكاتب» الذى يرفض لقب «الصحفى»، أن يقود أضخم عملية إنقاذ للصحافة المصرية المعاصرة.. وأن ينجح فيها أيضًا.

زلزال «الأخبار»!

قبل أن يتولى إحسان عبدالقدوس رئاسة تحرير «روزاليوسف»، كان قد وقع فى عالم الصحافة المصرية زلزال اسمه «أخبار اليوم»!

كانت الصحافة المصرية - فى مجملها - صحافة عقيدة، ورسالة. وكانت كل صحيفة منبرًا لخطباء التيار الفكرى أو الحزبى الذى تنتمى إليه. وكانت أداة التعبير الأساسية عندها هى المقال. فالصحيفة مجموعة من المقالات. والقارئ يختار الصحيفة التى يجد فيها كاتبه المفضل. فالكاتب هو الأصل، والصحيفة هى الأداة ثم فجأة ظهرت «أخبار اليوم»..

صحافة من طراز جديد، تؤدى مهمة مختلفة.

لا تبيع للناس الأقلام، وإنما تبيع الأخبار، ولا تزود القارئ بأحدث ما كتب طه حسين وإنما تزوده بأحدث ما جرى فى الشارع والعالم وكواليس الحكومة.

وكان هذا جديدًا على مصر، وعلى العالم العربى، وإن كان هو السائد وقتها فى صحافة العالم.

فالصحافة فى العالم كانت قد توصلت من زمان إلى أن مهمتها الأولى هى نشر الأخبار، وعلى الرأى العام أن يحدد موقفه بنفسه بناء على ما عرف من أخبار، وعندما ظهرت «أخبار اليوم» بهذا المنطق الجديد، كان الزلزال أعنف مما تحتمل الصحف المعاصرة.

لماذا؟!

لأنها جميعًا كانت صحف رأى، ورسالات، وأحزاب، ومنابر فكرية، وكانت أدواتها بالغة التخلف. ودخلها من التوزيع المحدود لا يمكنها من أية منافسة.

وقد كانت «أخبار اليوم» بلا جدال قفزة كبرى فى تاريخ الصحافة العربية، أتاحت لها أن تظل على صلة بالتطور الصحفى فى العالم. لكنها كانت خطرًا يهدد ببوار صحافة الرسالة أمام صحافة الخبر.

وفى بلاد لا تزال مستعمرة - ولا تزال أمية ومتخلفة - فإن سيادة صحافة الخبر وحدها، وإفلاس صحافة الرسالة كان يمثل كارثة.

والحق أن صحافة الرسالة كانت قد بدأت تفلس بالفعل وتموت تحت ركام المقالات المطولة، والمواقف الحزبية المغرضة، والخطب المنبرية الفارغة. ولم يعد فى ساحة الرسالات غير نشرات متناثرة يطلبها بعض الشبان بقروش هزيلة، ويبيعونها أحيانًا بأنفسهم على قارعة الطريق.

وهنا.. دخل الساحة إحسان عبدالقدوس!

غربال الأدب!

لم يكن فى نيته أن يتصدى أصلًا لهذه القضية، فهو فى بحار الصحافة المتلاطمة كان ما يهمه هو قيادة قاربه الصغير وحده.

ولأنه لم يكن من قباطنة أعالى البحار، فإنه اعتمد فى القيادة على الإلهام وحده: أى على ما توحى به فطرته الأدبية.

ولهذا، كان أول ما فعل هو نصب «غربال أسلوبى» لما ينشر فى المجلة، فالأسلوب الممتع الجذاب شرط عند الأديب، والذين ضمهم إلى المجلة كانوا جميعًا أصحاب أساليب:

جواز مرور عبدالمنعم السباعى مثلًا كان أسلوبه المرح، مع لمسة الشاعرية المرحة أيضًا، ولهذا اختار له إحسان باب «جراح قلب»، الذى يجيب فيه عن مشاكل القراء العاطفية، فأصبح الباب - بفضل هذا الأسلوب - طبقًا من الفاكهة.

صفحات الرأى والتحقيقات عهد بالإشراف عليها إلى المذيع الكاتب الأديب «سامى داود». فجعلها بأسلوبه شهية، سهلة الهضم، مهما تكن جدية محتوياتها.

وكان فى مصر فى ذلك الوقت أكثر من كاتب إسلامى. لكن غربال إحسان انتقى خالد محمد خالد.. لأنه فوق نظرته المتنورة صاحب أسلوب جمالى يستولى على القارئ فلا يفلت من جاذبيته.

وكان فى مصر أيضًا أكثر من كاتب يلتزم المنهج العقلانى فى تناول مختلف القضايا، ولكن إحسان التقط من بينهم أحمد بهاء الدين، لأنه كان - ولا يزال - صاحب أكثر الأساليب إشراقًا ونفاذًا إلى العقول بدون حواجز.

حتى الصفحات الإخبارية الخالصة «أخبار السياسة والفن والرياضة والمجتمع» لم يطق إحسان أن ينشرها على علاتها، فقيمتها الإخبارية لم تكن تبرر - من وجهة نظره - أن يفتقر أسلوبها إلى الجمال. ولهذا تولى بقلمه إعادة صياغتها جميعًا، وكان جواز مرورى شخصيًا إلى «روزاليوسف» هو أننى كنت مولعًا بالأساليب مثله، ونجحت فى أن أتولى عنه عبء هذه المهمة الشاقة!

بل إن هذا الالتزام الأسلوبى فرض نفسه حتى على صفحات النقد الفنى والأدبى. ومن أبلغ الأمثلة على ذلك أنه لم يعهد بباب النقد الأدبى إلى ناقد محترف يصدع رءوس الناس بالاصطلاحات النقدية البعيدة عن أفهامهم، وإنما انتقى فتحى غانم، وهو - مثله - أديب وروائى وفنان، وأغراه - مثله - بأن يتنكر وراء قناع صحفى!

إلى هذا الحد فرض إحسان عبدالقدوس غرباله الأدبى، وذوقه الأسلوبى، على الصحيفة التى جاء يقود زورقها فى أعالى البحار الصحفية.

ولا جدال فى أن هذه كانت مغامرة.

لكن من حسن الحظ أن «قبطانًا» آخر كان قد قام بمثلها، ونجح وهو أستاذ الصحافة المعاصرة «محمد التابعى».. الذى أنهى عصر المقالات والخُطب على صفحات الصحف وحول كل باب صحفى إلى متعة فنية، وكتب فى السياسة بلغة الفن، وفى المسرح بلغة السياسة ونشر الأخبار كأنها قصص، والقصص كأنها أخبار.

وقد عرف إحسان وهو طفل هذا التابعى العملاق، فقد كان يرأس تحرير «روزاليوسف» قبل أن يتركها ويصدر مجلته الشهيرة «آخر ساعة».

ولكن التابعى كان - عندما تولى إحسان «روزاليوسف» - قد باع آخر ساعة لأخبار اليوم، وسلمها لمدرسة الخبر تعيد صياغتها كما تشاء. وكان هذا البيع بمثابة التسليم بلا قيد ولا شرط للمدرسة الجديدة.

وقد كان يمكن أن يكون هذا مصير «روزاليوسف» أيضًا، لولا أن إحسان قد استفاد من درس التابعى، وقرر أن يواصل ما عجز هو عن مواصلته.

صحيح أن التابعى أطول منه، ولكنه يقف على كتفيه، ويستطيع أن يتطرف أكثر منه فى استثمار جاذبية الأداء الفنى، والأساليب الأدبية، وليكن بعد ذلك ما يكون!

للشباب فقط:

على أن إحسان عبدالقدوس، عندما تولى «روزاليوسف» لم يكن أديبًا فقط، وإنما كان شابًا أيضًا.

وبحكم شبابه. فإن هيئة التحرير التى شكلها كانت كلها فى مثل سنه، وكانت تعمل كأنها جماعة من طلبة الجامعة، فإحسان واحد منها وليس رئيسًا لها، ولأنه يملك سيارة فهو المسئول عن توصيل المحررين إلى بيوتهم، وكل محرر يؤدى عمل غيره إذا غاب، والفنان جمال كامل يسأل المحررين عن رأيهم فى كل لوحة يرسمها. والمحررون يقترحون على الفنان عبد السميع أفكارًا لرسومه الكاريكاتورية. ولا أحد يقول لآخر: مالك أنت؟

حتى الافتتاحية التى يكتبها إحسان عبدالقدوس. كان يشارك فى صياغتها المحررون، فهو يختار القضية التى سيكتب فيها. ثم يسألنى عن رأيى فى موضوعها، ثم يستدعى غيرى ويسأله. ويظل يسأل حتى يكتفى، وبعد ذلك يكتب ما اتفقنا عليه، كأنه لسان الجماعة!

ولم يسبق فى تاريخ الصحافة أن تحمل الشبان مسئوليات أكبر من سنهم، كما حدث فى «روزاليوسف» عندما قاد زورقها إحسان.

كان أصغر محرر فى المجلة يتحمل أحيانًا مسئولية حملة صحفية تستمر عدة أشهر.

وكان إحسان فى موسم الصيف يسافر كل أسبوع إلى الإسكندرية بعد أن يكتب افتتاحية العدد، فيقول لى - وأنا طالب صغير السن، ويسارى متطرف: اقرأها قبل تسليمها للمطبعة، واشطب ما ترى أن من الخير شطبه!

أما حين يسافر إلى خارج البلاد، فقد كان يكتب الافتتاحية بدلًا منه، وبتكليف منه، خالد محمد خالد، ولم يكن القارئ يشعر بدهشة حين يجد توقيعه على الافتتاحية بدلًا من إحسان عبدالقدوس!

ولم يكن إحسان وقتها يساريًا مثلى، أو إسلاميًا مثل خالد محمد خالد، ولكنه كان شابًا فى جماعة شابة وكان - ككل من هو شاب - «ليبراليًا» مفتوح العقل والقلب.

ومعروف فى عالم الصحافة أن المجلات - على عكس الصحف اليومية - تستمد طابعها من محرريها، وتعكس الجو الذى تعيشه أسرة تحريرها.

وما أكثر ما استفادت «روزاليوسف» من جو الشباب والألفة والحرية الذى حققه لها إحسان عبدالقدوس عندما تولى قيادتها، وإن كان لم يخطط لذلك أصلًا، وإنما تصرف - ببساطة - بفطرة شبابه!.

سحر الحرية:

لكن إحسان عبدالقدوس ليس أديبًا فقط، ولا شابًا فقط، وإنما كان من البداية، وقبل أن يتولى قيادة «روزاليوسف»، متحرر الفكر إلى أقصى حد.

والده كاتب، ووالدته فنانة، والعصر الذى تربى فيه كان عصر الحكيم وطه حسين وزكى نجيب محمود والعقاد والرافعى. وفى الجامعة كانت فلسفة أساتذته «ليبرالية» مطلقة: لا تميز بين الناس بسبب الجنس أو اللون أو الطبقة أو العقيدة وهو قد حمل هذه الفلسفة معه إلى «روزاليوسف» عندما تولى قيادتها، وطبقها بأمانة مطلقة.

والنتيجة أن «روزاليوسف» التى كانت تعارض حزب الوفد أصبحت تعارض كل الأحزاب وتعارض المؤسسة الحاكمة على إطلاقها، فمدرسة التحرر «الليبرالى» ترفض كل القيود.

والنتيجة أيضًا أن كافة التيارات الفكرية فى عالم السياسة والأدب والفن أصبحت تتكلم من فوق منبر «روزاليوسف» على قدم المساواة، وأصبح أمرًا عاديًا أن نلتقى على الصفحات مع آراء خالد محمد خالد وأحمد بهاء الدين والسيدة زينب الغزالى و...إلخ.

وكانت هذه تجربة فريدة فى تاريخ الصحافة المصرية، لم يسبق لها مثيل. ولم تتكرر حتى الآن فى حدود ما أعلم.

وقد كانت هذه التجربة أكثر من أى شىء آخر، مفتاح النجاح الصارخ الذى حققته «روزاليوسف» فى تلك الأيام. والذى حول إحسان عبدالقدوس - فى كتاب التاريخ الصحفى - من قائد زورق صغير يقاوم الأمواج.. إلى قبطان فى أعلى البحار الصحفية.. يسجل له التاريخ أضخم مهمة إنقاذ للصحافة المصرية!

مفتاح النجاة:

أنقذ إحسان «روزاليوسف» عندما وفر لها أقلامًا تمتع القراء، وشبابًا يواكبون العصر ويسبقونه، وتحررًا واسع الأفق يستوعب كل جديد فى عالمنا الذى يتجدد كل يوم، بل كل ساعة.

لكنه، وهو يفعل هذا، أنقذ صحف الرسالة جميعًا، وحرث لها الأرض كى تعيش.

كانت هذه الصحف بلا دفاع أمام زحف صحافة الخبر، وكانت تجثم على أنفاسها المقالات المطولة. وأساليب التعبير المتخلفة، والتحزب الجامد الأحمق، والشيخوخة المحافظة، والتعصب للرأى الواحد والفكر الواحد والزعيم الواحد.

فلما جاء إحسان، وغير منطق مجلته، وروحها، وأسلوبها، حرث الطريق أمام باقى صحف الرأى والرسالة، وصاغ لها نموذجًا يمكنها - إذا سارت على نهجه - أن تستأنف الحياة!

وبفضل هذا النموذج عاد الشباب فعلًا لصحافة الرأى والرسالة.

وجد القارئ لأول مرة صحافة رأى لا تجثم على صدره بالمقالات والخطب. ولا تتجهم فى وجهه، وإنما تخاطبه طوال الوقت بمرح واستبشار. ويلذع لسانها خصومه. دون أن يسيل دمهم، وبدلًا من الرأى الواحد تقدم له مائة رأى حر. وبدلًا من أن تدعوه فى كل عدد إلى محاضرة. تدعوه إلى ندوة حية، ثم هى لا تنسى أن تزوده بآخر الأخبار، وبكل الأخبار، فقد أدرك إحسان أنه لن يثبت أمام زحف صحافة الخبر إلا إذا نافسها فى بضاعتها وقدم إلى قرائه وجبات إخبارية سخية مثلها.. مع التفوق فى أساليب العرض الفنى لها.

وقد كانت هذه الصيغة التى توصل إليها إحسان عبدالقدوس هى المنقذ لباقى صحف الرأى والرسالة فى مصر والعالم العربى فقد لجأ إليها - فيما بعد - قادة صحف الرأى والرسالة جميعًا وبفضلها عاشت هذه الصحف جنبًا إلى جنب مع صحافة الخبر.. وواصل كل منهما دوره دون أن يزيح الآخر.

فعل هذا إحسان عبد القدوس دون أن يقصد. ولم يتنبه إلى أن دوره تجاوز حدود «روزاليوسف» إلا بعد وقت طويل، وبعد أن كسب المعركة، وبعد أن سمع ذلك من أمثالنا المهتمين بمسيرة التاريخ ورصد حركته. بل إنه حتى بعد أن سمع لم يصدق واعتبرنا - بأسلوب دعابته الذى اعتاد عليه - مرضى بالتاريخ، وهواة لصنع العناوين الضخمة بمناسبة وبدون مناسبة.

وهو له حق.

لأنه طوال مسيرته الصحفية كان أديبًا يستلهم الفن والذوق. وكان كاتبًا ينتمى إلى حرية التعبير ويتبنى قضية الإنسان، ولم تكن قضيته أبدًا ترويج صحيفة أو محاربة مدرسة صحفية لصالح مدرسة أخرى.

لكننا أيضًا لنا حق.

فقد أنقذ إحسان عبدالقدوس بالفعل صحافة الرأى والرسالة وجدد شبابها فى مصر والعالم العربى، وأتاح لها أن تظل راسخة على أمواج البحار الهائجة، وليس المهم أنه لم يتعمد ذلك، وإنما المهم أنه فعله، ونجح فيه، وليس المهم أيضًا أنه فى الأصل أديب، لا صحفى، فقد كانت صحافة الرأى والرسالة قد ماتت على أيدى الصحفيين، وكان محالًا أن ينقذها، فى حقيقة الأمر. إلا أديب!

وستعيش طويلًا أعمال إحسان عبدالقدوس الأدبية، لكن أعظم أعماله فى تاريخ الصحافة سيظل المهمة التى لم يسع إليها: مهمة إنقاذ صحافة الرأى والرسالة فى مصر والعالم العربى.

من كتاب مقالات صلاح حافظ عن مؤسسة «روز اليوسف»