رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإعجاز المصرى فى أكتوبر كما وصفه الإسرائيليون عام 1974 (2)

(4)

بارليف من الغطرسة إلى السقوط المهين!

يروى الكتاب قصة خط التحصينات المسمى بخط بارليف منذ نشأة الفكرة وحتى تحول الخط إلى رمز عالمى للغرور الإسرائيلى ثم نجاح المصريين وفى ساعات قليلة بعد العبور فى حصار تلك القلاع المحصنة وتحويل من بها إلى قتلى أو أسرى أو جرحى أو استخدام بعض تلك التحصينات كطعم لجذب المزيد من القوات الإسرائيلية لمحاولة إنقاذهم عن طريق عمل كمائن على الطرق المؤدية إليها من الخلف..!

هناك ملاحظة هامة فى هذا الكتاب..أن الكُتاب وهم صحفيون عسكريون قصدوا بشكل واضح إخفاء الأعداد الإجمالية للقتلى والجرحى والأسرى للحرب, لكن من بعض الشذرات المتناثرة هنا وهناك عن ضحايا بعض المواجهات الجانبية والمعارك المنفصلة أو عند حديث قائد سرية بعينها عن عدد الخسائر فى سريته – التى وصلت فى حالات مذكورة فى الكتاب للعدد 85 قتيل من إجمالى 100 هم عدد أفراد السرية – يتضح وبشكل يقينى جدا أننا نتحدث عن آلاف بين قتلى وجرحى إسرائيليين..

ويبدو من الكتاب أن القادة يتخوفون من مواجهة مواطنيهم بالأعداد الحقيقية, فربما سيظل عدد خسائر إسرائيل فى تلك الحرب سرا لن يُفصح عنه أبدا, لكننا يمكننا الوصول لأعداد تقريبية من خلال تحليل البيانات والأرقام الواردة فى الكتاب وعدد أيام الحرب..ففى فقرة يقول الكتاب أن عدد الخسائر الإسرائيلية فى أول يومين من الحرب يفوق خسائر إسرائيل فى حروبها السابقة مجتمعة!

وكجزء من تلك الملاحظة أقول..لو أن الكُتاب حاولوا تحاشى ذكر أرقام خسائرهم الإجمالية فى الحرب, إلا أنهم قاموا بكذب صريح بخصوص أعداد الجنود الموجودين فى التحصينات وأعداد الخسائر.

يمكن لأى قارىء أن يلاحظ التناقضات بين ما ورد فى موضع من الكتاب عن أن نصف تلك التحصينات – عدد التحصينات 32 - لم يكن بها جنود! وأن مجمل أعداد القوات التى كانت عند قيام الحرب موجودة فى التحصينات بلغ 500..ثم يعود ويذكر أن التحصين الواحد كان به أكثر من مائة، أى أنه وحسب الكتاب نفسه فإن عدد الموجودين فى نصف التحصينات لا يقل عن 1600!

لقد حاولوا جاهدين – رغم المرارة الظاهرة فى كل عبارة من عباراتهم – التقليل من قيمة بارليف العسكرية وأن إقامته كانت خطأ.. دون الانتباه إلى حقيقة ساطعة جدا..

هذه الحقيقة تظهر من التدقيق فى تفاصيل العبور فى الساعات الأول وكيفية تعامل المصريين مع التحصينات فى مراحل الحرب المختلفة..هذه الحقيقة تخبر بوضوح عن تفوق معلوماتى واستخباراتى مصرى طاغى هو الذى حدد ملامح المواجهة..عرف المصريون أن التحصينات ليست هى الغاية.. بل الغاية عزلها وتحييدها وقطع الطريق بينها وبين الخط الخلفى بدباباته المنوط به تعزيز التحصينات والاشتباك مع القوات المصرية..

فقد وقف الخط الخلفى مشلولا بفعل القصف المدفعى..وهكذا يكون المصريون قد استعادوا (قناة السويس) فى اليوم الأول من الحرب وهو فى حد ذاته هدف ثمين قامت إسرائيل بإنفاق مليارات الليرات للبقاء على ضفافها وفرض كلمتها على الملاحة بها..

هذا ما لا يستوعبه كثيرٌ من المصريين حتى الآن.. حين يتنطع أحدهم قائلا..(دا جيشنا يدوب عدى كام كيلو وخلاص!) وكأنهم يتوقعون حربا مثل ألعاب البلاى ستيشن يطارد فيها جيشٌ جيشا آخر لعدة كيلومترات فى الصحراء!

فى أقل من أربع و عشرين ساعة حقق المصريون أكبر أهدافهم الاسترتيجية فى الحرب..السيطرة على القناة.. بعد ثلاثة أيام تم تحقيق الهدف الثانى وهو إجهاض الهجوم المضاد وإفشاله وتكبيد إسرائيل المئات من القتلى والجرحى وإجبارهم على الإنسحاب كما يعترف الكتاب بذلك صراحة.!

إن الحرب – أى حرب – ليست منافسة فى القتل لكنها وسيلة لتحقيق أهداف الجيش المحارب بعد أن يكون قد قدر إمكاناته وموارده تقديرا واقعيا وصحيحا..وقد حددت مصر أهدافها بوضوح..استرداد الكرامة المصرية بعد إهانة 67 وهذا بدأ مع أول يوم فى حرب الاستنزاف.. ثم الأهداف الأخرى تنحصر استعادة سيادة مصر على قناة السويس وعلى كامل التراب الوطنى .. وهذا ما فعلته مصر وأصبح درسا قاسيا لن تنساه إسرائيل أبدا.. وأيضا لن تنساه مصر ولا قواتها المسلحة الوطنية!

والآن أنقل نصا ما ورد فى الكتاب عن خط بارليف الذى سحقه المصريون فى أقل من أربع وعشرين ساعة!

(...خط التحصينات الدفاعى على طول قناة السويس لم يكن مجرد ثمرة الإبداع الروحى والعسكرى للجنرال بارليف رئيس الأركان فى الفترة من 1968 إلى 1971م, وإنما تحول بمرور الوقت إلى رمز عالمى لقوة إسرائيل ومنعتها..

وفى اللحظة التى بدأ فيها العبور المصرى لقناة السويس انهار وتصدع تحت وطأته خط التحصينات وانتهى أيضا فصل بارليف فى تاريخ الجيش الإسرائيلى..

رسميا لا يعرف أحد كيف ولد هذا الاسم (بارليف), فلم يتلق تسميته من الجيش ولم يكن له وجود, فلقد ولد الاسم فجأة وبدأت تتناوله وسائل الإعلام واستخدمه جمال عبد الناصر فى خطبه, لكنه أصبح منذ حرب الأيام الستة (يونيو)  كقلعة حصينة للدفاع عن إسرائيل ورمزا لها..

كان رأى القيادة الإسرائيلية العسكرية والسياسية (مصر لن تستطيع أبدا اجتياز هذا العائق ضد الدبابات الأكبر من نوعه فى العالم)!

ومن سخريات القدر أن حاييم بارليف 49عاما - والمعين كوزير للتجارة والصناعة فى حكومة إسرائيل بعد خلعه الثوب العسكرى مباشرة – دُعى للعودة للجيش أثناء حرب أكتوبر و ُرسل إلى الجبهة لإنقاذ الخط الذى يحمل اسمه!

وبعد الحرب سُئل بارليف لماذا لم يقدر الخط الحامل لاسمه أن ينقذ نفسه؟ فقال خط بارليف؟! هذا من اختراع الصحافة! قال ذلك بعد أن رأى بأم عينيه الخط مدمرا وفى أيدى المصريين..

أنفقت إسرائيل على بناء بارليف أكثر من مليارى ليرة إسرائيلية من ميزانيتها للأمن وهو مبلغ ضخم..ثم نامت وراء الخط الذى لا يمكن أن اختراقه أو النفاذ إليه!

فى دفاعه عن الخط يقول بارليف (إن الخط لم يكن سلسلة من مواقع دفاعية محصنة فقط , وإنما كان نظاما مركبا قائما من عناصر مختلفة تشمل على مدرعات ومدفعية ونظام لوجستى مركب يتضمن محاور حركة وقواعد صيانة وقيادات خلفية .. بسبب فترة الإنذار القصير جدا لم تأخذ القوى التى من المفترض أن تملأ هذا النظام مكانها وقت الامتحان العسكرى!)

بداية الخط كانت حفر القوات لخنادق على طول القناة فى مواقع ارتجالية, وبعد بدء المصريين لحرب الاستنزاف عمقت الخنادق وأقيمت التحصينات ثم أخذت تتطور وتولدت خطة إقامة خط التحصينات فى سيناء وكان واضع الخطة الأولى قائد سلاح المدرعات بسيناء الجنرال إبراهام بيرن أدان.

وضع أدان نصب عينيه وهو يضع خطة التحصينات على طول القناة تشييد مواقع إنذار تتحصن فيها قوات صغيرة مجهزة بوسائط إلكترونية مهمتها إنذار قوات الجيش فى المؤخرة فى الوقت الملائم بكل محاولة مصرية لعبور القناة, فالصور الأولى الملتقطة لخط قناة السويس 1967م تظهر التحصينات كحفر ثعالب مغطاة بقضبان حديدية مقوسة ومغطاة بأكياس رمل وكتل حجارة..

ثم بدأت هذه الحفر تتضخم حتى تحولت إلى دشم محمية بحواجز رملية ومسقوفة بقضبان حديدية انتزعت من السكة الحديدية المصرية فى سيناء وبأطنان من الرمال.

عندما اتضح عزم مصر فى الاستمرار فى حرب الاستنزاف الثابتة بكل قوتها, بُدىء فى تنفيذ الخطة لبناء تحصينات تكون بمثابة مواقع دفاعية قوية حول المحاور الأربعة الموصلة من القناة إلى داخل سيناء ثم إلى الممرات التى تقود إلى أعماق شبه الجزيرة.

وبنيت معظم التحصينات كمجموعات على صورة قبضات محصنة يكون بإمكان كل منها تقديم تغطية ومساندة للأخرى. مجموعة فى الجنوب بمنطقة بور توفيق مقابل السويس. مجموعة فى الوسط مقابل الإسماعيلية. مجموعة ثالثة مقابل القنطرة. وشبكة تحصينات أقل كثافة على طول المحور الشمالى للقناة حتى 10 كم من بور فؤاد وهى الأكثر تعقيدا لأنها بنيت فى منطقة صعبة العبور طبوغرافيا والمسافة بين حواف المستنقعات وقناة السويس بضع عشرات من الأمتار فقط. وهذه المنطقة كانت هى الموضع الوحيد الذى لمصر من خلاله موطىء قدم فى شرقى القناة. ومجموعة من عدة تحصينات على ساحل البحر المتوسط من بور فؤاد إلى رمانة.

بلغ عدد هذه التحصينات 36 تحصينا وكانت فقط جزء من شبكة معقدة طُورت من سنة لأخرى واستغرق بناؤها شهورا كثيرة واستخدمت آلاف الشاحنات كتلا من الأحجار وضعت فى شبابيك حديد لاستخدامها فى بناء طبقات فوق الدشم وبلغ سمكها عدة أمتار للحيلولة دون نفاذ قذائف المدفعية الثقيلة إلى داخل الدشم واستخدم الجيش مدفعية سوفيتية ثقيلة من مخلفات المصريين فى حرب يونيو لامتحان قدرة طبقات هذه الأحجار على الصمود!

فى البداية أنفق على بنائها عشرات الآلاف من الليرات, ثم ازدادت تعقيدا وتحولت إلى مساكن حقيقية مجهزة بكل وسائل الراحة من (أجهزة اتصال متطورة. مكيفات هواء. مبردات. مواسير مياه. مخازن تموين.9 وكل تحصين من الخارج يبدو كقلعة من العصور الوسطى وقد بنى كدبابة عملاقة قادرة على القتال بصورة مستقلة..

وكان المقاتلون فى كل تحصين مزودين بقوة نار كبيرة يمكن تشغيلها بواسطة حفنة من الرجال ومن المفترض أن يكون فى كل تحصين من (من 30 إلى 35 مقاتل) (تعليق .. فى مواضع أخرى ثبت كذب هذا الرقم وأن العدد فى بعض التحصينات بلغ مائة جندى وضابط) 

كل تحصين يؤمن اكتفاءً ذاتيا من الناحية القتالية ويصمد فى وجه قوات متفوقة وكان التقدير أنه بإمكان كل تحصين الدفاع  فى مواجهة كتيبة مدرعة كاملة العدد لمدة أسبوع!

أما مهمة القتال ضد دبابات العدو فى حال نجاحها فى عبور القناة فهى ملقاة على عاتق دبابات الجيش الإسرائيلى ..

(تعليق 1..فى موضع آخر ذكر الكتاب أن كل تحصين ألحقت به وحدة مدرعات. تعليق 2 ثبت فى موضع آخر أن الجيش المصرى عن طريق المدفعية والصواريخ التى يحملها جنود المشاة قد شل حركة وصول الدبابات الموجودة فى الخط الثانى الخلفى لإنقاذ من بالتحصينات)

تحولت بمرور الوقت إلى أغلى مساكن أقيمت فى الدولة بعد أن أنفق على بناء كل تحصين عشرات الملايين من الليرات وعمل فى إنشائها آلاف الأشخاص من مهندسين وإلكترونيين وجنود و مدنيين من مهن مختلفة..

وعندما استولى الجنود المصريون على تحصينات الجيش الإسرائيلى, لم يكن بوسعهم إلا التأثر من وسائل الراحة المتوفرة للجنود الإسرائيليين فى تحصيناتهم..ففى كل تحصين آلة عرض سينمائية, هاتف عام يمكن الجنود من الاتصال مباشرة وبسرعة بالبيت وكانت عائلات جنود التحصينات فى تل أبيب وحيفا تستطيع أثناء حرب الاستنزاف أن تستمع إلى أصوات تبادل إطلاق النار!

وفى كثير من التحصينات كانت هناك نوادٍ مجهزة بأدوات رياضية مثل طاولات كرة الطائرة أو السلة. أما أماكن الجنود داخل الدشم فكانت محصنة وينامون على أسرة ذات طابقين وتحت تصرفهم كانتينات ومطابخ لمساعدتهم فى تمضية مدة خدمتهم فى قناة السويس فى ظروف ترف مشابهة لتلك التى فى قواعد سلاح الجو!

كانت قوات التحصينات تستبدل طبقا لجدول زمنى وكثيرٌ من الجنود كانوا يتوقون إلى اللحظة التى يجىء فيها دورهم فى الخدمة فى التحصينات واعتادوا القول (إنها مثل بيت النقاهة)! وألحقت بالتحصينات ذاتها أيضا وحدات مدرعة صغيرة مهمتها مساندة التحصينات أثناء القتال.

وكانت المبالغ التى أنفقت فى البناء والتجهيز تكفى لشراء 1500 دبابة مع تجهيزاتها أو 100 طائرة من أفضل نوع أو ذخيرة تكفى الجيش كله لأيام أثناء القتال أو إقامة شريط سميك من الألغام ذى كثافة عالية كبيرة على طول خط القناة مع سياجات شائكة.

على مسافة من 5 إلى 8 كم من التحصينات وفى عمق سيناء أقيم خط ثانى تمركزت فيه وحدات مدرعة مهيأة للانطلاق إلى مواقع قتالية محددة على الحواجز الرملية على طول القناة ومهمتها المساعدة إلى نجدة التحصينات فى حال عبور مصرى وضرب رؤوس الجسور المقامة..

وعلى مسافة 30 كم من القناة أقيمت معسكرات خلفية مسؤلة عن قيادة قطاع القناة. 

عبر القناة أكثر من 8000 جندى خلال المرحلة الأولى من العبور وخلال 24 ساعة كانت خمس فرق مصرية من المدرعات والمشاة تتمركز على بعد خمسة كيلومترات من الضفة الشرقية للقناة وقامت بتطويق كامل لخط التحصينات أو خط بارليف!

لقد استطاع المصريون بكل بساطة أن يعبروا القناة وينفذوا بين التحصينات فى مسافات العشرة كيلومترات الفاصلة بين التحصينات التى فقدت قيمتها العسكرية منذ الساعات الأولى للحرب مفترضين أن التحصينات ستسقط بأى حال فى أيديهم كالثمار الناضجة وقبيل ساعات المساء بدأت علامات هذا الاحتمال المريع ترتسم على وجوه القيادة العليا للجيش الإسرائيلى!

لقد أتاحت أجهزة اللاسكى المتطورة فى موقع القيادة العليا ما يجرى فى كل واحد من التحصينات التى كانت ما تزال مرتبطة بالقيادة بالاتصال.. سُمع صوت أحد ضباط العمليات يصرخ ماذا جرى فردوا عليه من التحصين ربما يجدر أن تسمع بنفسك ثم انطلقت من خلال اللاسلكى لعلعة الرصاص من الأسلحة الخفيفة التى يطلقها الجنود المصريون الذين كانوا ساعتها فى سراديب الحصن!

فى ساعات ليلة 6 أكتوبر وبعد أن نجح المصريون فى العبور على امتداد القناة وأصبح مسألة حصر منافذ العبور لا جدوى منها وأن قواتهم فى عمق سيناء, كان مصير التحصينات لا يزال غير واضحا.. فقد فضل المصريون فى هذه المرحلة عدم مهاجمتها وتكبد خسائر فى محاولات اقتحامها واحتلالها و فضلوا محاصرتها..

حاولت فرقة المدرعات (الإسرائيلية) فى سيناء التحرك نحو التحصينات لتعزيزها أو إنقاذ رجالها..نجحت فى الوصول لبعض المواقع وحمل بعض القتلى  والجرحى لكنها لم تستطع فى معظم التحصينات من مجرد الاقتراب مطلقا من الحاجز الترابى الممتد على طول القناة. فقد أوقفتها الصواريخ المصرية المضادة للدبابات التى أطلقت من الجهة الغربية للحاجز!

أعطيت الأولوية لإنقاذ الجرحى والقتلى وثمة 500 جندى محاصر داخل التحصينات وأوضحت التقارير أن هناك الكثير من القتلى والجرحى داخل التحصينات وأصبحت المهمة الرئيسية إخلاء هؤلاء..

اتضح للقيادة فى وقت لاحق أن ثمن محاولات الإنقاذ هذه باهظة جدا, فقد خلف الجيش الإسرائيلى عندما حاول اختراق طوق الحصار المضروب حول أحد التحصينات نحو 40 دبابة وناقلة جنود مصفحة مدمرين!

لم يتخذ القرار النهائى بشأن مصير التحصينات سوى ظهر الأحد عندما تسلم شارون وإبراهان أدان قائدا فرقتى الاحتياط قيادتيهما الأماميتين فطلب شارون تشكيل وحدة من 100 دبابة من فرقته لمحاولة إنقاذ المحاصرين وأمر إيدن فى قطاعه من مقاتلى التحصينات محاولة النجاة بأنفسهم!

وحين وُضِع موشيه دايان فى الصورة اقترح (أنه لا مناص من التخلى عن جنود التحصينات, فليهرب من يستطيع الهرب أما الباقون بمن فيهم الجرحى والقتلى فليبقوا فى التحصينات!)

اعتبر الكثيرون هذا القرار كفرا بالمبدأ وتنكرا لكل ما هو مألوف ومقدس لدى الجيش الإسرائيلى!

فى اللحظة التى أعطيت فيها الأوامر بإخلاء التحصينات والانسحاب منها ثارت عدة مشاكل صعبة, ففى القطاع الشمالى  كانت محاور الحركة مقيدة ومن الصعب التحرك نحو التحصينات وبدت محاولة التحرك بالدبابات بمثابة انتحار، فقد طوق المصريون محاور الحركة وملأوا المنطقة برجال الكوماندوز المسلحين بالصواريخ..!

يقول أحد قادة الدبابات (بعض الدبابات التى استطاعت التحرك اكتشفت خلال دقائق أنها داخل بحر من الصينيين!(يقصد المصريين), لقد كانوا بأعداد غفيرة..خرجوا من داخل الحفر ومن وراء التلال وبدأوا الهجوم..لم يحذرنا أحد فى أية مرحلة بأننا سنحارب المشاة! كانت التلال تبدو سوداء من كثرة الرجال..!)

وصلت قوة من الدبابات بعد أن خسرت معظمها فى سبيل الوصول إلى أحد التحصينات بالقرب من بورتوفيق..أمر قائدها قائد التحصين بتركه والاتجاه سيرا على الأقدام للانضمام إلى الدبابات التابعة لقوة الإنقاذ على بعد 400 متر من التحصين داخل منطقة القصف المدفعى والصورايخ..لكن رجال التحصين رفضوا!

 لقد خشوا الخروج والالتحاق بالدبابات لإدراكهم جيدا ما ينتظرهم فى الطريق..لقد سبب ذلك خيبة أمل لقائد قوة الدبابات الذى فقد جنودا ودبابات فى الطريق الذى سلكه حتى وصل قرب التحصين, ولم يكن أمامه سوى إصدار أمر للدبابات التى بقيت معه بالانسحاب الذى لم يعد ممكنا حيث لم يبق طريق للعودة سوى ممر ضيق به مئات من جنود المشاة المصريين الذين حاصروا التحصين وانتظروا وصول قوة الإنقاذ لإبادتها!

فى أحد التحصينات بقى من السرية المؤلفة من 100 مقاتل 15 مقاتل فقط وقتل الباقون أو أسروا!

كان واضحا لقادة التحصينات فى ضوء أوامر الإنسحاب و الإخلاء أن أحدا لن يستطيع أن يساعدهم وكان فى كل التحصينات جرحى وقتلى و نفذت كل ذخائر بعضها والمعدات الطبية واضطر بعض الأطباء إلى عمل عمليات بدون تخدير!

خرجت مجموعات مشردة من جميع التحصينات تحاول الهرب شرقا للمحاولة للنجاة بأنفسهم, بعضهم قتل وبعضهم أسر وقليل استطاع الهروب!

إن التخبط فى مشكلات انسحاب المحاصرين من التحصينات قد شغل القادة فى القيادة العامة والميدان طوال الأيام الثلاثة الأولى من الحرب.. جرت فى سبيل ذلك محاولات لاختراق خط المياه بالقوة وأبيدت معظم سرايا الدبابات التى أرسلت لإنقاذ رجال التحصينات..

المصريون يدخلون..المصريون فى الساحة..إننى مختبىء..إنهم يطلقون النار على..ثم صمت..هذا هو البلاغ الأخير من أحد قادة تحصينات القطاع الأوسط..قام أحدهم بحذف التحصين من الخريطة المعلقة فى القيادة الخلفية بينما طأطأ القادة رؤوسهم!

هكذا كان الوضع فى التحصينات وأيضا فى وحدات الدبابات التى كانت تحاول الإنقاذ..

لقد دفعت (فرقة سيناء) ثمنا باهظا خلال الهجمات التى شنت طوال اليوم فى محاولة للوصول للتحصينات وأبيدت سرايا دبابات كاملة..

بعد الحرب سأل والد أحد آباء الضحايا وهو يرى الدبابة التى قتل فيها ابنه أحد أحد القادة..هل فعلتم كل شىء من أجل...؟ فأجاب القائد إنه ليحزننى أن محاولة إنقاذ ابنك ورفاقه كلفتنا خمسة عشر قتيلا!

كان تحصين (الرصيف) فى المدخل الجنوبى للقناة من التحصينات الكبيرة المنيعة التى يملكها الجيش الإسرائيلى على طول القناة محاطا بالمياه من ثلاث جهات..طول حرب الاستنتزاف كان التحصين هدفا للقصف والإغارة المصرية وفى حرب أكتوبر حضّر المصريون قوة كبيرة من الجيش الثالث لاحتلاله لأنهم رأوا فى إخضاعه رمزا لقدرتهم على التغلب على الجيش الإسرائيلى..

سقطت آلاف القذائف على التحصين وتحت ستارها وصل الجنود المصريون حتى الجدران وألقوا القنابل اليدوية إلى داخل السراديب واقتربت دبابة وصوبت مدفعها باتجاه مدخل التحصين..

منذ اللحظة الأولى عرف القائد شلومو أن التحصين محاصر ومعزول من كل الجهات لكنه لم يشك فى أن قوات الجيش الإسرائيلى ستهب لمساندته وتفك الحصار عنه..

 صباح الثلاء رابع يوم الحرب تطلع قائد التحصين بمنظاره للشمال قليلا وروى قائلا (هبط قلبى.. فقد رأيت العلم المصرى فى الموقع المجاور لى.. علم مصرى على تحصيننا, إنه كابوس!)

فى اليوم الخامس للحرب وصلت رسالة من القيادة..إذا لم نستطع خلال 24ساعة من إرسال تعزيزات لكم فلكم أن تستسلموا!

فى صباح السبت : هل تستطيع الصمود؟

                  أخشى لا..وضعنا صعب أريد الاستسلام!

                  أنت غير مجبر على الاستسلام, لا يزال الأمر مرهون بتقديرك

                 إذا قررتَ الصمود سسناعدك بقدر ما نستطيع.

                 هذا لا يكفى. لقد تقرر الاستسلام!

(5)

الجندى المصرى ضد الدبابة الإسرائيلية!

من أهم ما ورد فى الكتاب وفى صفحات كثيرة منه، هو الشهادات الموثقة عن المقاتل المصرى الذى عبر قناة السويس وأنه كان العنصر الفاصل فى الحسم وليس السلاح! 

وهذه بعض الفقرات الواردة عن المصريين فى أرض المعركة خاصة (المشاة)..

(... حاولت بعض التحصينات خوض معارك مع المصريين الذين يعبرون القناة فأخذت بعض القوارب المصرية تنشطر فى المياه, لكن الجنود المصريين اتجهوا نحو الشرق سباحة!

لقد حمل الجنود المصريون الذين انطلقوا إلى أعالى الحاجز الترابى شرقى القناة معهم معدات كثيرة وثقيلة: أدوات لحفر الاستحكامات. كمامات غاز. مطرات مياه. خناجر. وجبات خاصة للقتال. وكان كل واحد منهم مزودا بكمية إضافية من القنابل اليدوية والمواد المتفجرة والذخيرة..وبالإضافة إلى ذلك حملوا معهم حقائب تشكل أهم عنصر فى المعركة التى جرت بعد ذلك, وكانت شبيهة بحقائب جيمس بوند وضعت فى داخلها صواريخ ساغر!

يقول إيلى ضابط مدرعات (لا أعتقد أننى بطل. إننى مجرد ضابط مدرعات يريد أن يعيش. أدركت أننى سأكون المصاب المقبل إذا لم أواصل السير وإطلاق النار. ومن يقاتل حقا من أجل هذا الشعب؟ ربما عشرة بالمائة من الكومة التى يسمونها الجيش الإسرائيلى وخصوصا أطقم الدبابات..! إذا كنتم تعتقدون أن جميع هؤلاء يقاتلون فأنتم مخطئون, هناك فى كل سرية بضعة أفراد وهناك المرتبكون والمترددون والذين يحاولون إنقاذ حياتهم وغالبا ما يكون ذلك متأخرا جدا. ربما عشرة بالمائة من المقاتلين هم من الضباط ومن القتلى عدد أكبر من الضباط!)

لم يكن الاستنفار فى شرم الشيخ فى ذلك اليوم (6 أكتوبر) ليختلف عن جميع حالات الاستنفار الكثيرة التى أعلنت فى الماضى. هذه المرة أيضا الاستنفار عادى..لم يولوه أهمية خاصة..لم يصدقوا أن أمرا سيحدث.. لم يتلفظ أى واحد منهم بكلمة حرب حتى ظهور الطائرات القاذفة المصرية..حيث كانت المنطقة المشرفة على مضائق تيران أحد الأهداف الأولى للهجوم الجوى المصرى..

سمع الجندى أفيتاى دوى القذائف التى بدأت تنفجر فجأة داخل باحة التحصين وكان أكثر الأشياء تأثيرا فيه صفير رجال الكوماندو المصريين الذين ظهروا فجأة حول التحصين!

عندما اتضح مع القصف المكثف على التحصينات أن المصريين بدأوا العبور وأنهم ينقلون وحدات إلى عمق سيناء, أرسلت الدبابات الإسرائيلية إلى الخطوط الأمامية لتعزيز التحصينات واحتلال مواقع إطلاق النار على امتداد القناة.. 

وهناك كانت تنتظرهم مفاجأة أخرى غير مفاجأة الحرب ذاتها.. لم يستطيعوا الاقتراب من خط المياه وبينما كانوا على بعد بضع مئات من الأمتار عن الحاجز الترابى على امتداد القناة أصيب الكثيرون منهم و لم يعرفوا مما أصيبوا!

فمن قواعد إطلاق الصواريخ المصرية غرب القناة أطلقت نحو الدبابات الإسرائيلية التى هرولت نحو القناة مئات كثيرة من الصواريخ الجديدة المضادة للدبابات من طراز ساغر.. 

وبعد دقائق قليلة أطلقت نحوهم أيضا الصواريخ نفسها من شرق القناة هذه المرة حيث تمركز عشرات الآلاف من الجنود المصريين الذين عبروا القناة..ولم يكن رجال المدرعات الإسرائيلية مستعدين لمواجهة احتمال أن يجرى لهم مثل هذا الاستقبال!

عندما تلقت سرية (بارى) الأمر بالانطلاق تأهب رجال المدرعات للانطلاق السريع وصعد معظمهم إلى الدبابات..علم بارى ورفاقه ببدء الحرب عندما أخذوا يركضون وسط النيران فى منبسطات مكشوفة ضمن مدى الرماية, وعلى بعد 400 متر من التحصين الواقع من بالقرب من البحيرة المرة الصغيرة بمحازاة التصاق البحيرة بالقناة توقفت دبابته و بدأت تطلق النار.. 

لقد اطمأن المقاتلون فى الدبابات عندما لاحظوا أن الأهداف التى تواجههم هم رجال سلاح المشاة وليست المدرعات المصرية.. كان ذلك بالنسبة لهم حقيقة مفاجأة مطمئنة..!

وقال أحدهم (لقد بدا لى هذا وكأنه انتحار من جانبهم!).. قال بارى (علمونا فى المدرسة أن الدبابة هى المشكلة, دبابة العدو هدف أول, والمدافع المضادة للدبابات الهدف الثانى, وبعد ذلك نطلق النار على المشاة..

كان بارى منهمكا فى إلقاء قذائف مدفع الدبابة الفارغة إلى الخارج عندما شعر فجأة بالنار تشتعل فى مؤخرة المدفع وحرق فى ذراعيه..استطاع أن يلقى بنفسه إلى الخارج و تضحرج على تلة من الرمال..

(نظرت حولى فشاهدت قذائف نارية مشتعلة ترقص فى الجو فى طريقها إلى دباباتنا القريبة منى..لم أفهم بعد ماذا يحدث.. لكننى فهمت فى وقت لاحق أن هذه صواريخ! وأن سلاح المشاة الواقف أمامنا لا يقل خطورة عن الدبابات التى لم نرها أبدا!

سمعت بهذه الصواريخ فى مدرسة المدرعات..لكن لم يضعوا هذه الأسلحة أبدا فى سلم الأولويات. كان هذا مفاجأة تامة وطوال ذلك اليوم كنت أشاهد هذه القذائف النارية تتنزه فى الصحراء وهى تنطلق من وسط الرمال!

كنا مذهولين, فقد بكى رجل المدفع وكنا لا نفهم ماذا يحدث..اختبأنا وراء الرمال, لم أكن أعرف بعد ماذا يسمونه ولا أنه عندما يخترق الدبابة يولد موجة من الحرارة تزيد عن ألف درجة مئوية ويدمر أجهزة الدبابة ويحرق كل من يجلس فيها..!

لم يكن حظ الدبابات الأخرى فى السرية بأوفر من حظنا..نظرنا من خلف التلال الرملية فشاهدنا مشاعل محترقة..كانت هذه فيما مضى دبابات السرية!)

خلال ربع ساعة بدأ رجال المدرعات الناجون يسمعون صفير رجال الكوماندو المصريين. بدأوا يمرون أمامنا نحو الشمال الشرقى..شاهدناهم يغرسون علما فى الحاجز الترابى عرفنا من القائد أنه العلم المصرى! جماعات جماعات..موجات من البشر!

وكان جنود المشاة بأعداد غفيرة..خرجوا من داخل الحفر ومن وراء التلال وبدأوا الهجوم.. لم يحذرنا أحد فى أية مرحلة أننا سنحارب جنود المشاة!

وفى القطاع الجنوبى كانت الدبابات التى أرسلت إلى التحصينات منهمكة فى إنقاذ نفسها, فقد احترق بعضها وأصيب البعض الآخر وعشرات الجرحى ممددين فى الميدان.. وكان ثمن محاولة إنقاذ رجال التحصينات باهظا جدا وعدد الخسائر فى تلك الساعة مخيفا جدا!

كان الجيش الإسرائيلى يأخذ فى الحسبان مسبقا فى كل عملية كمية الخسائر المتوقعة كأحد الاعتبارات, قتيل واحد..عشرة قتلى..أما هنا وأنا فى الميدان كان هناك مشهدا مخيفا..

كانت هناك عشرات كثيرة من القتلى، إن أحدا لا يستطيع أن يقدر عددهم.. منهم الذين احترقوا فى الدبابات وآخرون ضاعوا فى الصحراء واصطدموا بمجموعات مصرية اشتبكوا معهم أو استسلموا أو وقعوا فى الأسر أو قتلوا..)