رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإعجاز المصرى فى أكتوبر كما وصفه الإسرائيليون عام 1974 (1)

 

(الجزء الأول)

(1)

مقدمة

قبل أن يستفيق الإسرائيليون من أسوأ صدمة فى تاريخ اليهود المعاصر، وقبل أن تبدأ محاولاتهم لتزييف التاريخ وتسويق بضاعتهم المزيفة عبر أخطبوط وسائل الإعلام الدولية، صدر كتابٌ عن حرب أكتوبر فى عام 1974م بعنوان (المحدال) أو التقصير.

و تنبع أهمية هذا الكتاب من عدة أسباب أهمها :-

  أن من قاموا بكتابته هم سبعة من الصحفيين العسكريين الإسرائيليين الذين رافقوا القوات الإسرائيلية أثناء المعارك فكانوا شهود عيان على تفاصيل المعارك.. كما أنهم يمتلكون – بحكم عملهم الرسمى – من المعلومات السياسية والعسكرية الكثير وحضروا كثيرا من اجتماعات القادة الإسرائيليين العسكريين والسياسيين قبيل وأثناء وبعد الحرب..

كما أنهم كتبوا هذا الكتاب بدوافع الصدمة والمرارة والإحساس بالهزيمة الساحقة والإذلال مما دفعهم إلى الكشف عن كثير من الحقائق قبل أن تستفيق المؤسسات الإسرائيلية وتبدا فى محاولات إخفاء ما تستطيع إخفاءه من مشاهد السحق.. 

تعرض الكتاب لأحداث الحرب الكبرى.. قصة خط بارليف وقصة الثغرة وما غيره المصريون فى مسلمات الحروب السابقة، كما أفاض الكتاب فى وصف مشاهد الجندى المصرى وجها لوجه ضد الدبابة الإسرائيلية! 

وأعاد الكتاب الاعتبار التاريخى لحرب الاستنزاف المصرية وكيف ساهمت بشكل رئيسى فى مشهد أكتوبر، كما تعرض الكتاب فى أكثر من موضع لأعداد الخسائر الإسرائيلية البشرية...

يكتظ الكتاب بالمعلومات والتفاصيل التى لا يتسع المقام هنا لذكرها جميعا، لكننى تخيرت بعض الفقرات الهامة الخاصة ببعض التفاصيل الكبرى فى ملحمة أكتوبر..وسأعرض تلك الفقرات كما وردت نصا بالكتاب مسبوقة أحيانا ببعض العبارات التوضيحية، بادئا بتلك الفقرات عن حرب الاستنزاف كمقدمة لنصر أكتوبر، ثم الفقرات التى عنونها الكتاب بمصيدة الحمقى والتى تصف الذهول الإسرائيلى والشعور بالمرارة الشديدة من براعة خطة الخداع الاستراتيجى التى نفذتها القيادة المصرية ببراعة كسرت الغرور الإسرائيلى! 

(2)

حرب الاستنزاف كما صورها الكتاب..!

يؤكد الكتاب أن حرب الاستنزاف هى التى فرضت على إسرائيل بعد 67 استراتيجيتها الكاملة فى سيناء وأنهم بناء على تلك الحرب قرروا بناء ذلك الخط من التحصينات الثابتة وبذلك فقد حددت مصر شكل الحرب القادمة فى حين أن إسرائيل كانت غارقة فى الإنفاق على خط بارليف.. 

يكشف الكتاب أن ما حققته هذه الحرب على الأرض أعمق من الأهداف المعروفة مثل رفع الروح المعنوية للمصريين وأنها على أرض الميدان الفعلية أكبر من أن تُختصر فى معارك محددة..

وهذه بعض الفقرات التى أنقلها كما وردت بالكتاب والتى تصف كيف أعاد الإسرائيليون رؤيتهم لتلك الحرب –الاستنزاف- بعد صدمة أكتوبر..

(..لقد صادف وقف إطلاق النار فى يونيو 1967م ومدرعات الجيش الإسرائيلى موجودة على طول الضفة الشرقية لقناة السويس باستثناء قطاع ضيق فى شمالها حيث تفصل مستنقعات عميقة بين حواجز الرمل على طول القناة وبين مدينتى بورسعيد وبورفؤاد..

..كانت تمتد وراء قوات الجيش (الإسرائيلى) صحارى سيناء . وتغيرت بحكم هذه الظروف النظرية الأساسية المتعلقة بتحريك الجيش فى حالة اندلاع حرب جديدة..

..فالمساحات الشاسعة فى سيناء مثالية لحرب المدرعات وأعطت قادة الجيش (الإسرائيلى) فكرة أنه فى حال بدء المصريين للحرب حتى دون إنذار كافٍ – كما حدث فى حرب يوم الغفران 6أكتوبر – سيكون بإمكان الجيش مجابهة القوات المصرية وإبادتها فى حرب دفاعية أكثر سهولة !

..وبما أن هذه الحرب ستجرى بعيدا عن التجمعات السكانية فى إسرائيل فسوف تتوفر للجيش مهلة من الوقت ومجال للمناورة لمجابهة المشاكل العسكرية دون أن تتأثر الجبهة الخلفية التى كانت دائما وأبدا هى نقطة ضعف دولة إسرائيل زمن أى حرب بسبب الخشية من سقوط ضحايا من السكان المدنيين..

..لقد كان تصور الحرب المستقبلية بهذه الصورة صحيحا فى أساسه لكنه لم يتجسد فى الميدان. عندما ثارت ضرورة اتخاذ قرار بشأن النمط الدفاعى الواجب اختياره كان الاعتبار السياسى الحاسم هو طموح إسرائيل فى التشبث بحافة قناة السويس..

..من أجل تحقيق هذا الهدف, كان لابد لقوات الجيش الإسرائيلى من التمركز على خط المياه. ونشب خلاف فى هيئة الأركان العامة للجيش بين ثلاث وجهات نظر حول الشكل الصحيح الذى ينبغى بموجبه أن تأخذ قوات الجيش مواقعها. وجهة نظر رئيس الأركان وتعارضه وجهتا نظر لكنهما مختلفتان فى طرح البديل..

..فمجموعة على رأسها الجنرال بارليف رئيس الأركان العامة وقتها كان يؤيد التحصينات الدفاعية الثابتة.. ومجموعة جنرالات على رأسها يسرائيل طل وأريل شارون كانوا يقفون ضد مذهب بارليف..اعتنق فريق منهم (بزعامة شارون) مذهب السيطرة عن بعد بينما رأى أصحاب المذهب الثانى (بزعامة يسرائيل طل) الخط المتحرك..

..كانت حرب الاستنزاف هذه حربا ثابتة تعيد إلى الأذهان فى جوانب عديدة (حرب الخنادق) خلال الحرب العالمية الأولى.

..ومنذ اللحظة التى اتضح فيها دون أى ريب أن المصريين لا ينوون إيقاف حرب الاستنزاف الثابتة بات واجبا على هيئة الأركان اتخاذ قرار بشأن السياسة العسكرية الواجب اتباعها . وهل يجب التأهل لشن حرب شاملة؟ أم تنظيم الجيش بما يلائم هذه الحرب (حرب الاستنزاف) التى فرض المصريون طابعها على إسرائيل؟

..لقد ظلت المبادرة كلها وطوال الوقت بيد المصريين ورسمت هيئة الأركان الإسرائيلية خطواتها بناء على الخطوات التى أملاها المصريون دون أن تدخل فى الحساب احتمال أن تجر حرب الاستنزاف حربا من نوع آخر!

..لا يصح القول أن هيئة الأركان العامة الإسرائيلية تجاهلت كليا من حساباتها هذا الاحتمال (نشوب حرب شاملة), ولكن حرب الاستنزاف عقدت المفاهيم وشوشتها وبدلا من التهيؤ لحرب شاملة فقد وجهت معظم الجهود والموارد الإسرائيلية لحل المشاكل التى أثارتها حرب الاستنزاف!

وهكذا نجم وضع أعدت إسرائيل نفسها فيه لحرب من أجل الهيبة السياسية ونُسى فى سياقها العديد من المبادىء التى وجهت النظريات الأمنية للجيش فى تلك الفترة!

 خلال حرب الاستنزاف التى راح ضحيتها مئات من جنود الجيش الإسرائيلى المتمركز على حافة القناة، نجمت الضرورة الملحة لتوفير حماية ملائمة للمقاتلين هناك، وهكذا ولدت خطة إقامة التحصينات لأول مرة على يد إبراهام بيرن أدان قائد سلاح المدرعات وبدأت بحفر ثعالب مغطاة بقضبان حديدية ومغطاة بأكياس الرمل وكتل الحجارة..

وعندما اتضح أن مصر عازمة على الاستمرار فى حرب الاستنزاف الثابتة بكل قوتها وأعلن ذلك بوضوح جمال عبد الناصر, بُدىء بتنفيذ الخطة لبناء تحصينات ومواقع دفاعية بلغ عددها 36 تحصين.

فى المرحلة الأولى للبناء أثناء حرب الاستنزاف, وقع القصف المركز العنيف الأول عام 1968م ولم تستطع المواقع الصمود فى وجه المدفعية المصرية.

وعقب وقف إطلاق النار أغسطس 1970م كانت التحصينات فى مواضع كثيرة مهروسة هرسا وكان من المستحيل الدخول إلى غالبية الدشم.. وفى الشهور الثلاثة الأولى عقب وقف إطلاق النار ومن أجل ترميم الخراب فى خط بارليف تم إنفاق ما يزيد عن 30 مليون ليرة إسرائيلية بينما بلغت التكلفة الإجمالية لخط بارليف 2 مليار ليرة إسرائيلية!

فى الليلة الأولى لوقف إطلاق النار فى نهاية حرب الاستنزاف, استغلت مصر وقف إطلاق النار فى تحريك عدد من قواعد الصواريخ المضادة للطائرات من نوع سام2 وسام3 باتجاه الضفة الغربية للقناة..

ومنذ ذلك الوقت باشرت مصر فى إقامة حاجز كثيف من الصواريخ بالقرب من القناة وبسرعة متزايدة وغطى بمداه أيضا مسافة 20 إلى 30 كم فى عمق الضفة الشرقية, ومُنع سلاح الطيران الإسرائيلى من العمل بصورة فعالة فى هذا القطاع منذ نهاية 1970م وبشكل خاص فى 6أكتوبر 1973م .. واتضح أن سلاح الجو الإسرائيليى الذى حقق انتصار الجيش الإسرائيلى الخاطف 5يونيو 1967م لم يكن قادرا على صد الهجوم المصرى فى أكتوبر بسبب تراص الصواريخ المصرية!...)

(3)

مصيدة الحمقى !

 هذا هو العنوان الذى أطلقه مؤلفو الكتاب على أكبر حملة خداع فى التاريخ أو حملة الخداع التى نفذتها مصر ضد القيادات السياسية والعسكرية والمخابراتية الإسرائيلية  أو الحمقى! وقد بدأت تلك الخطة بتولى السادات لحكم مصر 1970 م وفى عام 1972م كانت قد وصلت لمرحلة متقدمة ثم وصلت ذروتها يوم الحرب ذاته .. 

وهذا بعض ما ورد فى الكتاب نصا عن تلك العملية المعقدة ..

(...إن الشعار الذى أطلقه جمال عبد الناصر(ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة) لم ينته بموته, بل تبناه حرفيا وريثه فى الحكم أنور السادات, لكنه فى بعض الأحيان لم يعمل بهذا الشعار علنا وذلك للقيام بعملية تضليل لم يسبق لها مثيل فى التاريخ..

كان السادات فى السنوات الأولى من حكمه يحدد من حين لآخر مواعيد وتواريخ لبدء الحرب ويضطر بعد ذلك إلى أن يوضح لشعبه سبب عدم تنفيذه لجداوله الزمنية..كانت كل خطبه المتعلقة بالحرب متشابهة, وهكذا توقف المسؤلون (الإسرائيليون) بكل بساطة عن الأخذ بها بجد!

فى العام الذى أسماه السادات عام الحسم 1971م وفى الأيام الأولى من أكتوبر بدأت مصر مناورات للعبور وتحريك فرقة مدرعات بمساندة سلاح الجو وبتغطية من الصواريخ وكانت حواس القيادة الإسرائيلية ساعتها منتبهة ومحفورة فى ذاكرتها حرب الاستنزاف التى راح ضحيتها نحو 400 قتيل إسرائيلى وأكثر من ألف من المصابين.. 

ثم ألغى السادات فى العام نفسه ومن جانب واحد وقف إطلاق النار واستكمل استعداده للحرب وتلقت مصر قاذفات قنابل طراز تو16 مزودة بصواريخ جو أرض.. كان رأي دايان ساعتها أنه ربما تكون الحرب على الأبواب و وضع الجيش فى حالة تأهب قصوى..ثم ألغى السادات الحرب وحمل السوفييت مسؤلية تأجيل الحرب فى خطاب علنى!

بعد ذلك بدأ السادات اتباع أسلوب المناورات الكثيرة لإدخال السكينة فى روع الإسرائيليين.. فأجرى المصريون عام 1972م سلسلة من المناورات نفذوها حرفيا تحت أعين الإسرائيليين وعرضها التليفزيون الإسرائيلى..!

فى 25مارس 1972م شكل السادات حكومة مصرية جديدة وجاء فى التصريحات الرسمية أن مهمة الحكومة الجديدة هى إعداد مصر للحرب وفى اليوم ذاته نشرت صحيفة الأخبار المصرية مقالا افتتاحيا جاء فيه (إننا نسير نحو معارك كبرى مع إسرائيل)..

منذ ذلك اليوم تقريبا لم يمر يوم واحد إلا و نشرت صحيفة من صحف العالم خبرا يتعلق بالحرب القريبة التى تنوى مصر شنها على إسرائيل..

,فى العام نفسه نفذ المصريون مناورة ضخمة قرب القناة شملت العبور بكل تفاصيله على مرأى من جنود الجيش الإسرائيلى فى تحصيناتهم شرقى القناة حظيت بملاحظات ساخرة من قبل الخبراء العسكريين فى تل أبيب رغم إعلان حالة التأهب فى إسرائيل بمناسبة إجراء تلك المناورة..!

ونجح المصريون - فى إطار عملية الخداع فى نهايات سبتمبر 1973م عندما لوحظت مرة أخرى تحركات للجيش المصرى – فى إقناع إسرائيل أن القصد هو مناورة.. حيث حركت مصر الفرق المصرية الخمسة التى كانت على الخط الأول لإجراء المناورة وهى التى عبرت.. نشر المصريون أخبار علنية رسمية أن المناورة باسم (صلاح الدين القائد العربى الذى هزم الصليبيين) وهكذا – للمرة الأولى – لم يوضع الجيش الإسرائيلى فى حالة التأهب القصوى!

والأمر المذهل - وبمراجعة الفيلم الذى أذيع من عام على شاشات التليفزيون الإسرائيلى – أن المصريين نفذوا عمليا فى 6 أكتوبر 1973م وبدقة متناهية عبور القناة تماما مثلما تدربوا عليه فى بروفتهم السابقة!

وقد كان السادات أجرى فى إبريل 1973م  مقابلة مع مجلة نيوزويك أعلن فيها أنه ينوى القيام بعمل إسرائيلى محدود ضد إسرائيل..الحقيقة أنه كلما كان السادات يكثر من تهدياته بشن الحرب شخصيا أو عن طريق جهات أخرى كان يضعف استعداد إسرائيل للنظر بجد فى أقواله..و بينما كان السادات يحاول باستمرار تسخين الجو فى الشرق الأوسط كان رد الفعل الإسرائيلى الدائم (هذا غير جاد)..

ورأت الجهات المسؤلة (الإسرائيلية) فى المعلومات العلنية والسرية محاولة مصرية للضغط على إسرائيل بالتهديد بشن الحرب وجزم الآباء الروحانيون بزعامة وزير الدفاع أن مصر لن تنوى المبادرة إلى حرب واسعة وربما يحاول المصريون عبور قناة السويس فى نقطة معينة بهدف إقامة رأس جسر مؤقت على أرض سيناء..

ومع ذلك فحين قررت القيادة (الإسرائيلية) فى شهرى إبريل و مايو 1973م القيام بمناورة مفاجئة فى سيناء لردع العدو.. لم يحدث أى رد فعل لدى المصريين مطلقا ولو مصادفة!

فقد استمرت مناورة القوات الإسرائيلية أسبوعين وعلى مرأى من المصريين غرب القناة ولم يحدث أى رد فعل, فقد قصدت مصر أن تجعل القيادة العامة الإسرائيلية تعيش على أعصابها وتفرض عليها استنفار الجيش الإسرائيليى بين الفينة والأخرى إلى أن تتخدر فى نهاية الأمر يقظة المسؤلين الإسرائيليين!

كشف الفريق أول إسماعيل على وزير الحربية المصرى بعد الحرب عن طرق التضليل التى اتبعها المصريون فى تلك الفترة :-

 فقد سرب – إسماعيل - إلى صحيفة الأهرام أن ضباطا وجنودا مصريين ينوون السفر إلى مكة فى نهاية رمضان... 

ونشر أن وزير الدفاع الرومانى سيزور القاهرة 8 أكتوبر...

وقال أن التكتم وصل لدرجة أن الموعد المقرر لبدء القتال لم يكن مطلعا عليه بعد تحديده الأول سوى شخصين فقد الرئيس السادات وهو شخصيا..

يقول إسماعيل (كنت أعرف أن العدو يراقبنا بصورة دائمة.. لذلك كنت أرسل لواء إلى الجبهة للمشاركة فى المناورة, ثم أعيد فى الليل كتيبة واحدة ليحسب العدو أن القوات خرجت لإجراء المناورة وعادت بعد إنتهائها..

وأخّرت إرسال عتاد العبور قدر الإمكان لأنه كان واضحا أن إخراج العتاد من المخازن سيلفت النظر.. نقلت أجزاء الجسور المعدة لعبور القناة إلى جوار الضفة فى اللحظة الأخيرة فى عتمة الليل وهى مغطاة بالبقول وجرى إخفاؤها فورا فى أماكن معدة سلفا)

فى الساعة 8 من صباح السبت 6 أكتوبر 1973م وصلت تقارير لرجال الاستطلاع فى التحصينات (تحصينات بارليف) أن الرعاة المصريون وقطعانهم يشاهدَون من خلف القناة..

وأن الفلاحين يزرعون حقولهم...

وأن الجنود المصريين يتجولون على ضفة القناة وهم عزل من السلاح وبعضهم منهمك فى الغسيل أو الصيد!

كان هناك وضع غريب.. ففى اللحظة التى بدأ فيها القتال كان جنود مصريون يقفزون فوق الحاجز فى الجانب الغربى ويتجولون هناك وكأنهم لا يعرفون بما يحدث!

ويوم السبت, كرر مذيع إذاعة القاهرة تلك الشفرة البسيطة مرتين..الساعة الآن الثانية وخمس دقائق!

إن تسريب الأخبار المزيفة للصحف فى لغة الاستخبارات أمر مألوف ومعروف وكثيرا ما يجهل الصحفيون أن المادة المسربة إليهم من خبراء أو مصادر سرية هى مادة ملفقة وموجهة..وقد اعترف إحمد إسماعيل أنه مطلع على هذه النظرية جيدا وقد استخدمها جيدا..

إن أشخاصا ساذجين هم فقط من يصدقون أنه بالإمكان الإيقاع بجهاز استخبارات متطور وفعال مثل الجهاز الإسرائيلى عن طريق أخبار كاذبة منشورة فى الصحافة.. لكن المثابرة على استخدام هذا الأسلوب لفترة طويلة تخلق ترسبات لا واعية فى عقل الجهاز وهو نمط من (غسيل الدماغ) الذى سقط فيه جهاز الاستخبارات الإسرائيلى !..

بعد توقف القتال قال اللواء سعد الدين الشاذلى فى مقابلة صحفية (لم يخطر على بالى مطلقا أنه يمكن تضليل العدو إلى هذا الحد!) وبنظرة إلى الخلف يصعب إدراك كيف أمكن أن تقع القيادات العسكرية والسياسية فى إسرائيل فى مصيدة الحمقى التى نصبت لها!

نشرت وكالة أنباء يونايتد برس فى ديسمبر 1972م خبرا (ذكر فى تقرير سرى أعده سلاح الجو المصرى أن 40% فقط من السلاح و 60% فقط من الطائرات المصرية فى حالة صالحة.. وعليه فقد فسر خبراؤنا أن العوامل الأساسية المسؤلة عن ذلك هى الصيانة السيئة ونقص قطع الغيار الروسية وأن مصر قد فقدت 50 طائرة مقاتلة فى التدريبات وبما أن مصر كانت تمتلك قبل حرب الاستنزاف 523 طائرة يصبح فى حوزتها الآن من 450 إلى 400 طائرة منها 300 طائرة فقط صالحة للقتال..

كتب مراسل التايمز فى القاهرة يوم 16ديسمبر 1972م أن الجيش المصرى ليس مهيأ للقتال..

كتب مراسل جريدة لاستامبا الإيطالية بالقاهرة يناير 1973م أن الفساد متفشٍ وفى حوزة الجيش المصرى ذخيرة لأسبوع واحد فقط وأن مصادر مصرية تعترف صراحة أن مصر تعانى من نقص فى البنزين وقطع الغيار وهناك طيار واحد فقط لكل طائرتين وتجثم الطائرات الحديثة الأسرع من الصوت كأحجار لا تجد من يقلبها!

فى القاهرة نوفمير 1972م اقتربت طائرتان نفاثتان إسرائيليتان إلى مسافة 50 كلم من القاهرة..دون أن ينجح المصريون فى إطلاق صواريخ تجاهها وقد أطلق أخيرا صاروخ بعد أن استدارت الطائرتان وعادتا!

فى إبريل 1973م كتبت الصحيفة الفرنسية الإكسبريس (تختبر إسرائيل الدفاع الجوى المصرى دون انقطاع. النتائج التى توصل إليها الخبراء العسكريون أن مصر تشبه كيسا فارغا..فأجهزة الرادار فيه شبه عمياء..ردود أفعالها بطيئة!

لقد أعادت الصحف الإسرائيلية نشر هذه الأنباء والأخبار تحت عناوين بارزة.. وكل خبر مصدره (لوموند أو التايمز) كان يحظى بإبراز خاص فى الصحافة الإسرئيلية وتحولت الصحف الإسرائيلية لأبواق تردد ما يسربه المصريون عبر الصحف العالمية!

لقد كانت الخدعة كاملة إلى حد أنه حتى فى يوم 6 أكتوبر نفسه عندما صدرت الأوامر العاجلة بالتأهب لم تكن جولدا مائير و دايان ورئيس الأركان قد آمنو بعد بأن حربا شاملة تقترب حقا!

فى أواخر سبتمبر 1973 وردت تقارير الاستخبارات العسكرية بأن حركة ما فى الجانب المصرى لكن كان تقديرها (لا أهمية لصورة الوضع)..تأثرت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بتقدير الاستخبارات الإسرائيلية بصورة حاسمة .. وبعد الحرب بفترة وجيزة تم طرد ضابطين ومدنى على الأقل من مراكز رئيسية فى المخابرات الأمريكية نتيجة تقديراتهم الخاطئة إلى حد لا يستهان به.

فى يوم الجمعة 5 أكتوبر 1973م اكتملت حلقة الخداع المصرى, فقد اجتمع فى هذا اليوم هنرى كسنجر وزير الخارجية الأمريكى بمحمد الزيات مستشار الرئيس أنور السادات الذى أتقن دوره فى عملية التضليل فجاء الحديث هادئا تناول مبادرة السلام التى كان كيسنجر يزعم القيام بها بعد الانتخابات الإسرائيلية التى كان مزمعا إقامتها 29 أكتوبر!

حاول المسؤلون عن الأمن فى إسرائيل بعد أن سقطوا فى مصيدة الحمقى بفعل الخداع المصرى أن يشرحوا للشعب أنه لم يكن بوسعهم السماح لأنفسهم بتعبئة الجيش كلما أجرى المصريون مناورة ضخمة بسبب الأضرار التى ستلحق بالاقتصاد الإسرائيلى!

ليس ثمة كذب أكثر من هذا, فتكلفة تعبئة الاحتياطى بشكل كامل لمدة شهر أقل من تكلفة يوم واحد فى حرب الغفران (أكتوبر), فالحرب كلفت إسرائيل حتى يوم 24 أكتوبر 22مليار ليرة إسرائيلية واضطرت الحكومة نتيجة لذلك لطبع أوراق مالية فى الأسبوع الثالث بسرعة وبكميات لم تعرفها إسرائيل فى تاريخها..بخلاف الدم حيث كانت خسائر إسرائيل من القتلى و الجرحى هو الأكبر فى تاريخها.. وفى أول يومين فقط فى الحرب فاقت خسائرها من القتلى والجرحى ما  خسرته فى حروبها مجتعمة ..!)