رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إهالة التراب على «شامبليون»

منذ وقت قليل قال الرئيس مخاطبًا المصريين «انتبهوا.. إنهم يضعون التراب على حصيلة عملكم»! كان الرئيس يعلق وقتها على حملة مبالغ فيها تشكو من تطوير طريق الساحل الشمالى ورفع كفاءته وتوسيع عدد حاراته!!

ما قاله الرئيس السيسى يصلح مدخلًا لفهم أمور كثيرة، منها الحملة التى تعلن الغضب من تمثال لعالم المصريات الفرنسى الشهير شامبليون «١٧٩٠- ١٨٣٢» الذى قام بفك رموز حجر رشيد.. ما يدعو للريبة فى هذه الحملة ليس موضوعها نفسه ولكن توقيتها.. فقد تصاعدت مع حلول موعد الاحتفال بمائتى عام على اكتشاف حجر رشيد، وهى مناسبة عالمية لا ينبغى لمصر أن تفوتها لأنها إحدى وسائل تسويق اسم مصر فى العالم عمومًا وفى فرنسا خصوصًا.. المريب فى الأمر أن هذا التمثال عمره ١٤٧ عامًا وأنه موجود فى مكانه منذ عشرات السنوات وأن مَن صنعه لا علاقة له بشامبليون لا من قريب ولا من بعيد.. لكن هناك على ما يبدو من يريد أن «يلقى التراب» على هذه المناسبة التاريخية التى يندر أن تتكرر والتى كان يجب الاحتفال بها على مستوى القمة بين مصر وفرنسا كدلالة على حدث تاريخى تحول الصراع فيه إلى تعاون وتفاعل حضارى بين أمتين.. إن التفسير المنطقى بالنسبة لمن يبحث عنه أن كتائب الإرهابيين الذين يسكنون شقوق السوشيال ميديا هم من حركوا هذه الحملة الغاضبة فى هذا التوقيت لحرمان مصر من فرصة احتفال مشترك وحملة تسويق سياحية لمصر فى أوروبا كلها، وكان أن شارك معهم بعض المتحمسين أو المتحدثين بغير علم أو الراغبين فى الظهور بمظهر حماة الوطنية المصرية سواء بحسن نية أو بسوء نية.. وما يضاعف من هذا الاحتمال عندى أن أول التفات لوجود التمثال واعتراض عليه كان فى عام ٢٠١٣ أثناء وجود الإخوان على مسرح السياسة فى مصر قبل أن يطيح بهم المصريون.. ومبدئيًا أنا لا اعتراض عندى على أعداء التمثال ولكن اعتراضى على توقيت إطلاق هذه الحملة المتشنجة والذى بدا مقصودًا إفساد فكرة الاحتفال بهذا الحدث الضخم سواء فى باريس من خلال السفارة المصرية ومعهد العالم العربى أو فى مصر من خلال مؤتمر يُدعى له أبرز علماء المصريات فى فرنسا ومن تبقى من أسرة شامبليون وربما الرئيس الفرنسى نفسه.. ولكننا للأسف نملك رأيًا عامًا ينساق وراء أى طبل أجوف ويعشق المزايدات ويكره صوت العقل ويرقص على طبول العاطفة.. ولعل ما زاد من سوء ظنى بحملة «إلقاء التراب» هذه أن البعض راح يخلط بجهل يحسد عليه بين الاعتراض على تمثال أقيم بعد وفاة شامبليون بأربعين عامًا وأكثر وبين الإساءة لهذا العالم الفذ نفسه أو اتهامه بأنه سرق جهد أحد العاملين معه من المصريين، وهو جهل ما بعده جهل وادعاء ما بعده ادعاء ولم يقل به أى مرجع علمى أو جهة بحثية ولا تفسير له سوى أنه تعبير عن تعصب دينى ووطنى أعمى يلقى به أعضاء الكتائب من الإخوان الإرهابيين ويلتقطه بعض حسنى النية أو الفارغين من المعنى أو من الذين سلطهم الله على أنفسهم وعلى بلدهم من فصيلة الدببة التى تقتل صاحبها بحجر لتهش من على وجهه ذبابة.. لقد كان حجر رشيد التاريخى واحدًا من ملايين الأحجار التى نُقلت من معابدها الأصلية بعد هدمها لتُستخدم فى بناء قلاع وحصون وكنائس ومساجد.. وهكذا نقل حجر رشيد ليستخدم فى بناء طابية رشيد فى أيام المماليك وانتبه جندى فرنسى من حملة نابليون للنقوش التى يحملها الحجر وتصادف هذا مع جهود عالم المصريات شامبليون الذى كان يبذل جهدًا كبيرًا فى دراسة اللغة القبطية المصرية وتمكن عن طريق إجادتها وإجادة اللغة اليونانية القديمة من فك رموز اللغة الهيروغليفية، بعد أن كانت تسود معاهد المصريات فى فرنسا نظرية تقول إن الرموز الهيروغليفية هى رموز دينية باطنية لا تعبر عن لغة منطوقة.. وكانت عبقرية شامبليون أنه افترض العكس وأثبت صحة افتراضه وعن طريقه عرفنا تاريخ الفراعنة الذى دونوه على جدران المعابد والمقابر والأهرامات، ومن المؤسف أن الجهود الكبيرة التى بذلها هذا العالم لفك رموز حجر رشيد قد أدت لاعتلال صحته.. فمات وهو فى الواحد والأربعين من عمره.. لتخسر مصر واحدًا من عشاقها.. عبّر عن حبه لمصر فى رسالة لشقيقه قال فيها «أريد أن أقوم بدراسة معمقة ومتواصلة لهذه الأمة القديمة.. يملؤنى الحماس الذى قادنى لدراسة آثارهم وقوتهم ومعرفتهم» إلى أن يقول «من بين كل الأشخاص الذين عرفتهم سأقول إنه لا أحد عزيز علىّ مثل المصريين».. بينما روى عنه أحد مرافقيه أنه انهار عندما وصل القارب الذى كان يبحر به فى النيل إلى معبد فيلة ووقف يتأمل عظمة بنائه ويقول لمرافقه «إننا فى أوروبا أقزام بالمقارنة بعظمة المصريين»!! هذا هو الرجل الذى تجتهد كتائب الكراهية فى إهالة التراب عليه طوال الأيام الماضية مستغلة جهل بعض من يسمون أنفسهم بالوطنجية والدولوجية ظلمًا وعدوانًا وهم فى الحقيقة «جهلجية» نسبة إلى الجهل لا إلى أى شىء آخر.. كل عام وأنتم بخير بمناسبة إفساد ذكرى مرور مائتى عام على اكتشاف حجر رشيد.. ووفقكم الله إلى إهالة التراب على شىء آخر يخص مصر فى القريب العاجل بإذن الله!!