رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحوار مازال ممكنًا بين روسيا وأوكرانيا

تدخل الحرب التي طال أمدها في أوكرانيا مرحلة جديدة، وربما أكثر خطورة، بعد الهجوم المضاد التي شنته القوات الأوكرانية ضد القوات الروسية في منطقة خاركيف الأوكرانية، فضلًا عن الدعم السياسي والأمني الدائم من الغرب، مما دعا الكرملين إلى التصعيد.. أمر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بتعبئة عسكرية روسية، بينما أصدر تهديدًا آخر شبه مبطن، باستخدام أسلحة نووية.. وتعد استفتاءات انضمام إقليم دونباس إلى روسيا، علامة أخرى على محاولات الكرملين تصعيد الضغط على أوكرانيا. 
تشير كل هذه التطورات إلى خطر جدي من التصعيد في الصراع الأوكراني، وهو الصراع الذي أدى إلى اضطرابات في الطاقة بين روسيا وأوروبا، واقترب بشكل مثير للقلق من التهديد بوقوع حوادث نووية.. لكن المزيد من التصعيد ليس حتميًا.. في الواقع، يمكن أن توفير زخم لشيء، استعصى على الصراع الروسي الأوكراني الذي يعود إلى عام 2014: محاولة جادة ومخلصة من قبل جميع الأطراف المعنية، للتوصل إلى حل دبلوماسي لإنهاء الحرب في أوكرانيا.. أو على الأقل التخفيف من نتائجها الأكثر تدميرًا.
كانت هناك العديد من الجهود الفاشلة لحل الصراع الأوكراني دبلوماسيًا.. ويعود ذلك إلى بداية الصراع أوائل 2014، في أعقاب ثورة الميدان الأوروبي في كييف، عاصمة أوكرانيا، وضم روسيا اللاحق لشبه جزيرة القرم، فضلًا عن رعاية الانتفاضة الانفصالية في دونباس.. بدأت المفاوضات الدبلوماسية على الفور تقريبًا.. وقد جاء ذلك في المقام الأول في شكلين: مجموعة الاتصال الثلاثية، التي ضمت أوكرانيا وروسيا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، لمعالجة المكونات التكتيكية والأمنية للصراع، وما يسمى بـ(نورماندي 4) بين أوكرانيا وروسيا وفرنسا وألمانيا، لمعالجة القضايا الاستراتيجية الأوسع نطاقًا من المستوى السياسي.
وأسفرت جهود الوساطة هذه عن اتفاق خارطة طريق لإنهاء الصراع الأوكراني، يعرف باسم (اتفاق مينسك)، والذي تضمن وقفًا لإطلاق النار وسحب القوات من خط التماس، ولكن لم يتم تنفيذ أي جزء من هذا الاتفاق بنجاح أو بشكل مستدام.. كانت هناك العديد من القضايا التي قُوِض تنفيذها، فضلًا عن الخلافات بين كييف وموسكو حول تسلسل المكونات الأمنية والسياسية للبروتوكول.. كان جوهر فشل اتفاقية مينسك، هو أن الغرض منه كان يستخدم من قبل كل طرف من الأطراف الرئيسية بشكل مختلف، حيث نظرت أوكرانيا إليه باعتباره وسيلة لاستعادة الأراضي التي استولت عليها روسيا، في حين نظرت موسكو إليه باعتباره وسيلة لتقويض جهود التكامل الغربي على أرض كييف.
وأصبحت اتفاقات مينسك منتهية تمامًا مع الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير الماضي.. ولم يعد مركز جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الشعبيتين خاضعًا للتفاوض؛ بل أصبح الوضع في أوكرانيا بعامة خاضعًا للتفاوض.. وبدلًا من ذلك، اختارت روسيا الاعتراف بهذه الأراضي كدول مستقلة، قبل شن هجوم عسكري على أوكرانيا.. وقال الكرملين إن هذا ضروري لحماية هذه الأراضي وكذلك لتحقيق (نزع السلاح) على نطاق أوسع من أوكرانيا.. وقد أدى ذلك إلى المرحلة الحالية من الصراع العسكري في أوكرانيا، وهي مرحلة تم التفاوض عليها إلى حد كبير في ساحة المعركة، ويبدو الآن أنها على شفا المزيد من التصعيد.
وعلى الرغم من فشل الجهود الدبلوماسية لحل الصراع بين أوكرانيا وروسيا، فإن هذا لا يعني أن الوساطة الدولية في الصراع الأوكراني كانت غير مجدية ككل.. كان هناك جهد دبلوماسي واحد من هذا القبيل في المرحلة الحالية من الصراع، لم يتم الاتفاق عليه وتنفيذه من قبل جميع الأطراف المعنية (بما في ذلك كل من أوكرانيا وروسيا) فحسب، بل يمكن أن يكون أيضًا بمثابة إطار لمنع الحرب من التفاقم.. يعرف هذا الجهد باسم (مبادرة حبوب البحر الأسود)، وهي اتفاقية دولية تضم أوكرانيا وروسيا توسطت فيها تركيا والأمم المتحدة.
تم التوقيع عليه في 22 يوليو ودخل حيز التنفيذ أول أغسطس.. وقد مهد هذا الاتفاق الطريق لممر بحري إنساني لإمدادات الحبوب عبر البحر الأسود، وسمح لكل من أوكرانيا وروسيا بإطلاق العنان لصادرات الأغذية التي أُعيقت نتيجة للحرب.. وبما أن الاتفاق قد تم تنفيذه بنجاح لأكثر من شهرين، فقد ساعد في تخفيف الضغوط الاقتصادية في أوكرانيا ونقص الغذاء في العالم، مما يوفر دليلًا على أنه لا يزال من الممكن تحقيق التعاون العملي بين كييف وموسكو حتى في خضم الحرب.
ونتيجة لذلك، كان لدى كل من أوكرانيا وروسيا حافز للتوصل إلى اتفاق بشأن إمدادات الحبوب، حتى مع استمرار الصراع العسكري الأوسع، مما مهد الطريق أمام تركيا والأمم المتحدة للتوسط.. منذ إطلاق مبادرة البحر الأسود للحبوب، كان هناك ما يقرب من مائتي رحلة لسفن الحبوب، حيث قدمت أكثر من أربعة ملايين طن متري من منتجات الحبوب.. على الرغم من حدوثها أثناء نزاع نشط، كانت هناك العديد من العوامل التي سهلت اتفاقية الحبوب، وكان هناك قبول بين جميع الأطراف للمراقبة والتنسيق الدوليين نحو التنفيذ.. وقد سمح ذلك بمتابعة الدبلوماسية بجدية، وللمفاوضين بالتركيز على التفاصيل الفنية للمعايير القانونية واللوجستية للصفقة مع التغلب على أي عقبات سياسية.
كل هذه العوامل مهمة ويجب وضعها في الاعتبار، عند النظر في ما يمكن أن يبدو عليه الاتفاق الدبلوماسي لإنهاءـ أو على الأقل التخفيف من حدة تصعيدـ الصراع في أوكرانيا في هذه المرحلة من الحرب.. وعلى غرار مبادرة البحر الأسود للحبوب، وخلافًا لاتفاق مينسك، من المهم لأي اتفاق من هذا القبيل أن يكون له غرض مشترك وهدف يتفق عليه جميع الأطراف بصورة متبادلة.. وعلى الرغم من أنه لا يوجد بالتأكيد نقص في الاختلافات بين موسكو وكييف والغرب، إلا أن هناك أهدافًا مشتركة لا يزال بإمكان جميع الأطراف الالتفاف حولها، حتى لو كانت هذه الأهداف تهدف فقط إلى منع تصعيد دراماتيكي، من شأنه أن يضر بجميع الأطراف.. ويمكن أن يتخذ هذا التصعيد أشكالًا عديدة، من هجوم روسي بالأسلحة النووية إلى قطع كامل للطاقة، إلى الأزمات الاقتصادية والسياسية التي يمكن أن تتسبب فيها مثل هذه الأعمال.
وبالتالي، فإن مبادرة حبوب البحر الأسود، مع تركيزها على التعاون المتعدد الأطراف وتحديد الأهداف المشتركة وتنفيذها، يمكن أن توفر إطارًا مفيدًا لمنع تصعيد الصراع الأوكراني ـ فضلًا عن تبادل السجناء الأخير، الذي توسطت فيه مع المملكة العربية السعودية، لتحقيق هذا الهدف.. إذ يمكن للوساطة الناجحة التي تسفر عن نتائج ملموسة، حتى في القضايا الصغيرة نسبيًا، أن تبني الأساس لخفض التصعيد في المستقبل.. صحيح أن القضايا المتعلقة بالسيطرة على الأراضي والضمانات الأمنية أكثر صعوبة بكثير في التوسط، إلا أنه مازال من الممكن أن تتجنب كل من أوكرانيا وروسيا جهود الوساطة هذه، بينما تحاول قواتهما الحصول على ميزة في ساحة المعركة. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.

[email protected]