رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سرقة المسلات المصرية «1»

عندما ظهرت أمريكا كقوة دولية، في مطلع القرن الثامن عشر، وجاء الدور عليها لتثبت أهميتها، وأنها لا تقل عن فرنسا وبريطانيا شأنا، لأجل ذلك، قررت الحصول على مسلة من المسلات المصرية، خصوصا بعد أن حصل الفرنسيون والإنجليز على مسلات من محمد على. 

في البداية قامت إحدى الصحف الأمريكية التي تصدر في نيويورك بنشر كاذب، ادعت صدوره عن سمو الخديو إسماعيل، وجاء في الخبر أن سموه وافق على إهداء مدينة نيويورك المسلة الباقية بالإسكندرية، ولتأكيد الكذبة ادعت الصحيفة أن تصريح الخديو كان في وجود جون ديكسون المقاول الذي تولي عملية نقل مسلة الإسكندرية إلى لندن.
وحرصا على علاقة البريطانيين بالخديو فقد أصدر المقاول جون ديكسون تكذيبا للخبر المنشور، وقال إنه لم يحدث شىء من هذا القبيل.

كان الأمريكيون يعترفون بأن الخبر كاذب، فلماذا لا يجعلونه صحيحا؟
وبدأت على الفور عملية تحويل الخبر الكاذب إلى حقيقة. 
كان الخبر قد نشر، وقرأه هنرك ج. ستبنز، مدير مصلحة المتنزهات العامة لمدينة نيويورك، فلم يترك الفرصة تمر دون أن ينتهزها. 
وعلى الفور كتب إلى وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، مستر أفراتس، يبلغه فيه برغبته الكتابة إلى سمو الخديو للحصول على موافقته لنقل المسلة من الإسكندرية إلى نيويورك.
وقبل الحصول على موافقة الخديو، بدأ مدير المتنزهات العامة الأمريكي في الاستعداد لهذا الحدث العظيم، وتم عمل اكتتاب للحصول على النفقات المالية المطلوبة، وتبرع أحد رجال الأعمال بكل النفقات بعد الاستعلام عن قيمتها من المقاول ديكسون الذي تولي نقل المسلة المصرية من الإسكندرية إلى لندن.
وكانت تلك أولى خطوات تحويل الخبر الكاذب إلى حقيقة واقعية. 
وتقرر أن يقوم ممثل عن المقاول الإنجليزي بتقديم أصل الخطاب المقترح تسليمه إلى الخديو، وتمت كتابة صيغة الخطاب بطريقة تداعب خيال الخديو الذي كان حلمه أن تتحول مصر إلى واحدة من دول العالم الراقي والمتمدين، وجاء فيه:
"إن السرور العظيم الذي عم العالم المتمدين، إزاء خبر انتقال المسلة المعروفة باسم مسلة كليوباترا إلى إنجلترا، تحت رعاية حكومة سموكم، قد أثار الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الأخص أنه لدى أهالي مدينة نيويورك شغف عميق بالآثار المصرية، زاد منه التلميح لشعب مدينة نيويورك، عن طريق المستر ديكسون الذي يقطن في لندن، بأن سموكم سوف تنظرون بعين العطف، إذا قدم طلب خاص بمسلة أخرى معبرا عن سمو إرادتكم النبيلة وعواطفكم الصادقة، بإهداء مدينة نيويورك المسلة المناظرة لها، القائمة الآن في الإسكندرية، لإقامتها في أحد الميادين العامة العظيمة . وأملا في أن هذا الطلب سوف يقابل من سموكم قبولا حسنا فإن أحد كبار أعيان نيويورك قد أبدى رغبته في تمويل هذا المشروع بكافة اللوازم الضرورية له، فيما يتعلق بنقل هذه المسلة عبر المحيط الأطلنطي، ووضعها في الموضع اللائق بها، وذلك لتبقي شاهدا ينطق بلسان روحكم الحرة المستنيرة التي أشرفتم بها على أعمال المملكة الجليلة القديمة التي استؤمنتم عليها بما أوتيتم من سطوة ونية صادقة، نحو أحدث الدول العظيمة في العالم".

وتم إرسال صورة هذا الخطاب إلى قنصل الولايات المتحدة الأمريكية في الإسكندرية يوم 15 أكتوبر 1877.
غير أن القنصل أبدى بعض التحفظات بشأن هذا الموضوع، منها أنه يخشى أن تكون هناك معارضة مصرية إزاء نقل المسلة من الإسكندرية، ولو أن الخديو يرغب شخصيا في إرضاء رغبات أهالي مدينة نيويورك، فإنه لا يفكر في رفض هذه المنحة لهم، مع الأخذ في الاعتبار أن المسلة التي نقلها الإنجليز كانت مهملة، وملقاة منذ سنوات عديدة، ويغطيها التراب، وأن أهالي الإسكندرية قد نسوها وأهملوها، أما المسلة الباقية فهي قائمة مع الأثر المعروف بعمود بومبي. وهما الأثران الباقيان في الإسكندرية ويزورهما السائحون.
غير أن القنصل أبلغ رئيسه وزير الخارجية، بأنه من العسير الحصول على مسلة الإسكندرية، وأنه من الأفضل تقديم طلب للحصول على أحد الآثار الضخمة، أو إحدى المسلات الموجودة بالأقصر أو الكرنك. 

لم يكن المقاول الإنجليزي الذي تعاقد معه الأمريكان ليتولى تقديم الطلب إلى الخديو جاهلا، بل كان ملما بالأصول الدبلوماسية وآداب التعامل مع ملوك الشرق، بحيث يدرك أنه لا يليق به كمواطن إنجليزي أن يطلب من الخديو صنيعا بالنيابة عن مواطني دولة أخرى.
لأجل هذا كتب هذا المقاول رسالة إلى القنصل العام للولايات المتحدة الأمريكية يخبره فيها بأنه ليس متعهد توريد المسلات من طرف سمو الخديو، وأنه إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية ترغب في إحدى المسلات، فينبغي أن يقدم وزير خارجيتها طلبا إلى حاكم مصر، واختتم المقاول جون ديكسون رسالته إلى القنصل قائلا:
"وإنني أتوسل إليك ألا تذكر اسمي على أنني أنا الذي اقترحت هذه الفكرة، وسوف يسرني التعامل معكم في المشروع الجديد، غير أن سمو الخديو قد عاملني بكل احترام، وبطريقة لا يمكنني معها أن أسمح لنفسي، مهما كان الثمن، أن أجازف بالإساءة إليه، وهو الأمر الذي أخشى أن تحدثه الرسالة المشار إليها".. يتبع.