رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مقام راحل «٤»

لن أوافق على زواجها، لا أريد أن أخسر صداقة «يولاند» وكسر خاطر طنط «بولين»، لكن ابنتى عنيدة، تمتلئ عيناها معظم الوقت بالسخط والغضب، لا أستطيع أن أرصد متى تحولت النظرات الوديعة إلى هذه النظرات الجافة القاسية..

أنا المسئولة عن كل ما يحدث لى ولابنتى، سواء بالرعاية أو بالإهمال، كل ما أفعله يأتى بنتيجة غير مرضية..

لم أتوقع حين اخترت مدام «يولاند» كى تحسن من مستوى أروى فى اللغة الفرنسية أن تتطور الأمور؛ لتصل لأن يتقدم «فادى» ابنها لخطبة أروى، سأخسر صديقتى ولن أكسب حماة لابنتى. 

كانت أروى تذهب للدرس فى بيت مدام يولاند فى شارع محمد بسيونى، بتعدد مرات ذهابى لأروى وطول السنوات التى رعتها نشأت صداقة بيننا، تدعونى للجلوس وانتظارها فى صالون بيتها بدلًا من انتظارها فى السيارة. 

يولاند تتسم بأنها ذات وجه بشوش للغاية، كما أنها ذات قلب طيب وحنون، تتعامل بحكمة كبيرة فى أصعب المواقف لذلك هى تنجح فى تخطى أى صعاب فى حياتها. قد تكون غامضة للبعض، لأنها قليلة الحديث، ولكن من يتقرب منها يعرفها جيدًا ويحبها بشدة.

ذات يوم وأنا أنتظر فى الصالة الكبيرة أوزع نظراتى بين الأيقونات وواجهة المتحف المصرى الظاهرة من الشرفة الطولية، سمعت صوتًا كأنه هديل حمام. 

- صباح الخير.

كان صوتها هادئًا، وكانت رقيقة، حتى لكأنك تشعر بنورها يغمرك.. 

قمت للترحيب بها، فهمت أنها والدة يولاند، سلمت عليها، ووجدتنى أحضنها وهى أيضا حضنتنى وربتت على ظهرى كأننا نعرف بعضنا البعض منذ دهر، قلت لها: 

- حضرتك لن تصدقى، كأنى أعرفك من سنين. 

- أنا كمان درست فى مدرسة الميردى ديو وكنت مكرسة. 

لن أوافق على هذا الزواج.. أردد بصوت عال، سأقف فى وجه «أروى» خوفًا عليها.. أنا أمها.. تمسكت برأيى، وتمركزت حول كل أفكارى وحقى كأم.

لكنها حين دخلت غرفتى وقبلت خدى وهمست: ماما علشان خاطرى استسلمت لها، بمجرد أن لمست شفتاها خدى وطوقت يداها عنقى حتى أعادتنى لأمومتى.. تمامًا كما جعلت الحياة تسرى فى عروقى.. حين لمست صدرى، شعرت بالحياة تسرى، فى يومى الثالث بعد ولادتى والأول لرجوعى البيت، بدأ فى سخافاته وشجاره الذى لا ينتهى، بينما كان صوته هادرًا متداخلًا فى الخارج وبدأ الخوف والرعب بآلية التعود يرتادنى، فى هذه اللحظة كانت أروى ترضع حلمة ثديى فى فمها، لمست أروى ثديى بيدها الصغيرة، ارتجفت، ذهب الرعب، أمسكت يدها الصغيرة، مسدتها، أخذت أحركها، أهدهد بها على ثديى، لم أعد وحدى، ذهب الخوف، أصبحت لا أسمع سوى هدير جهاز التكييف، كل شىء لا يعنينى، ولا يفسره عقلى فيبعث فىّ الخوف أو الحزن، صرت فى الجنة، هدهدتها الصغيرة تواسينى، هى معى، يد على درب السلام تقودنى، أخذت دموعى تنسال.. أبكى امتنانًا لليد الصغيرة، أدعو لها بالستر والبقاء، كشحاذ، مطرود منبوذ، آواه أحدهم إلى ظل ظليل، دموع فرح، امتنان، بهجة، دموع جعلتنى أطفو، أطير، دموع سحرية شافية سقطت على الضفدع القبيح حولته إلى أمير وسيم، جبيرة ضمت كسورى، بلسم طيب جراحى، أدندن أمام المرآة وأنا أسرح شعرى.. «مالى وأنا مالى وأنا مالى عايشة فى أحلى أمانى ويا حبيبى الغالى»، وعيناى ترمقان الصغيرة بمحبة وامتنان، وافتنان.

كلما رفعتها كى أرضعها كانت روحى تصلى للطبيب الذى ساعدنى ومنحنى نصف أمومتى بل، أمومتى كلها. عندما استطعت أن أرضع أروى بينما عجزت عن إرضاع «شريف». 

وأمام إصرارها لم أستطع إلا أن أمنحها موافقتى المترددة، بمثل هذه الظروف، وللمرة الأخيرة نصحتها وأظهرت لها العواقب، لكنها لم تستمع لى، وقد تعلمت من الحياة أن لا أحد يتغير وأن كل شخص فى هذه العائلة سيأخذ نصيبه من اللعنة كاملًا، دون زيادة أو نقصان لعنة التمرد أو الخضوع. 

- الغريب أن بابا هو من كان متحمسًا، لهذه الزيجة.. رغم مخاطرها.. 

- ألن تسبب لك مشاكل؟ يعنى أصحابك، الناس اللى فوق موافقين؟ 

- لا دخل لهم بشىء. 

لماذا يبارك أبى هذا الزواج، ويهتم بمحاولة إقناع «بولين» جدة فادى؟

هذه العائلة كل من فيها عانى، إما من تمرده وعصيانه وثورته وغضبه وإما من خضوعه وخنوعه واستسلامه، عائلة أفرادها لا يعرفون الاعتدال، على طرفى النقيض يقفون، وكل يدفع الثمن ولا فائدة من النصائح سوى مزيد من التوتر والعناد، هذه العائلة تخاف من الفشل، تهرب منه، لكنه الفخ الذى يقع فيه كل أفرادها.