رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القوة الثقافية المصرية «3-3»: من تراجع الدور إلى الصحوة المطلوبة

أخطر ما يخايل العقل السياسى المسيطر فى بعض الدول والأنظمة فى العالم العربى هو إطلاق بعض المقولات التبجيلية، والتمجيدية حول هذه الدولة، أو تلك من بعض سياسييها، أو أجهزة إعلامها الرسمية، وذلك من أجل دعم الفكرة الوطنية، وتنمية الشعور السوسيو- نفسى بالانتماء الوطنى لمجموعاتها الانقسامية على أسس دينية، أو مذهبية، أو عرقية، أو قبلية، أو عشائرية، أو مناطقية. 

هذا النمط الانقسامى بين المجتمعات والدول العربية يلجأ النظام السياسى إلى بعض هذه المقولات لبناء الاندماج الداخلى مع استراتيجية بوتقة الصهر العميقة! خطورة هذه المقولات التمجيدية، أنها مع مرور الزمن، وضغوط أجهزة الدولة الأيديولوجية- الإعلام والتعليم والخطابات السياسية- تشيع فى الإدراك العام للنخب المؤثرة بعض الأوهام التى تصدقها، وتعتبرها كحقائق. هذا النمط من الأوهام السياسية أو الثقافية يشكل أحد العوائق البنائية والإدراكية التى تعيق إمكانات التطور السياسى والثقافى والاجتماعى فى هذا المجتمع، ونظامه السياسى، من بين هذه الأوهام تصور النخب الحاكمة منذ حرب أكتوبر ١٩٧٣، أن مصر هى مركز القوة الثقافية فى الإقليم العربى، وأن بقية البلدان العربية هى مواقع فرعية وربما هامشية للمركز مع أدوار فرعية لـبيروت، ودمشق، وبغداد.

شيوع هذا الإدراك السياسى لدى الطبقة السياسية وأجهزتها الإعلامية، والثقافية، والموالين لها من المثقفين ومعارضيها، مرجعه تصور خاطئ للأدوار الثقافية، خارج نطاق الدولة، وفى النظام الإقليمى لها!

هذا التصور ينظر إلى القوة الثقافية للدولة، والجماعة الثقافية على أنها تتسم بالثبات والاستمرارية، وهو إدراك خاطئ تمامًا، ولا توجد أدوار ثقافية إقليمية وعالمية تتسم بالاستمرارية والثبات فى الدور والثقل، لأن التطور الثقافى فى نموه وتراجعه يرجع إلى العديد من الأسباب على رأسها: 

١- مدى تطور النظام التعليمى فى كل مراحله، وتحوله من التعليم التلقينى إلى تعليم يعتمد على سلطة العقل الناقل، والعقل المتسائل، ومعه الاندماج مع ثقافة الأسئلة، لا ثقافة الإجابات الجاهزة، والمقولات العامة التى تفسر كل شىء ولا تفسر شيئًا قط! والمناهج التى تعتمد على الحفظ والتكرار، والخلط بين العلم، والمرويات والسرديات الدينية!

٢- المجال العام المفتوح، الجدل الحر، وشيوع الحريات العامة، وضماناتها، ومعها الحريات الفردية، وعلى رأسها حريات الرأى والتعبير والبحث العلمى.

٣- القبول بالتعددية السياسية، وحماية العقل الحر من خطابات العنف اللفظى، والدينى والاجتماعى والطائفى، وتأثيم العنف المادى والرمزى واللفظى، وحماية أشكال الإبداع وثقافة الأسئلة.

٤- دمج الثقافة مع مناهج التعليم المختلفة، وأيضًا توحيد النظام التعليمى ومناهجه، والتفاعل بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية.

٥- بروز طلب سياسى واجتماعى فعال على قيمة التعليم وقيمة الثقافة والعلم. 

لا شك أن ما سبق وغيره من الشروط، يؤدى إلى دينامية ثقافة الجماعات التكوينية، وأيضًا إلى بناء موحدات وطنية بين هذه المجموعات، وفى ذات الوقت إلى حركية الثقافة بالمعنى العام للاصطلاح. من هنا حركية الإبداع الثقافى لا تكون قصرًا على المبدعين ولا أساتذة الجامعات، ولا مراكز البحث، ولا الجماعات الثقافية، وإنما تمتد إلى قطاعات اجتماعية واسعة من أبناء الشعب.

دون الشروط السابقة، تتسم الثقافة، بالمعنى الضيق والواسع، بالجمود، والسكونية فى الدول والمجتمعات التى لا يوجد فيها إدراك لأهمية الثقافة فى تطور المجتمعات وفى دعم النظام السياسى، وقوة الدولة فى إقليمها أو عالمها، ويسهم الركود الثقافى فى إعاقة النظام الاجتماعى عن التطور والحركية الاجتماعية، ويضاف إلى ما سبق ضرورة تكثيف التصنيع- من الثورة الصناعية الثانية إلى الثالثة، ثم مؤخرًا إلى الرابعة، لأن عمليات التصنيع فى كل القطاعات وبينها القطاع الزراعى تؤدى إلى إحداث تغيرات فى نظام القيم، من التقليدية إلى التحديث والحداثة، خاصة فى العمالة الفلاحية التقليدية، من قيم التواكل والقدرية إلى قيم العمل، والمسئولية والزمن، والمعنى للحياة، خارج المعانى التقليدية، ومروياتها الوصفية.. إلخ.

الشروط السابقة، لم تتحقق فى الحالة المصرية الثقافية إلا فى ظل المرحلة شبه الليبرالية، ١٩٢٣- ١٩٥٢، حيث كانت أسئلة التحديث، والحداثة المبتورة، هى السائدة والمراجعات النقدية للموروث الدينى والعقلى، والجدل المفتوح تحت حماية القضاء المستقل، والطبقة السياسية الحاكمة، ومطالب الاستقلال الوطنى والدستور وانفتاح السوق الثقافية على المراكز الثقافية الأوروبية فى ظل مدن كوزموبوليتانية فى القاهرة والإسكندرية، لا شك أن وجود بعض الأجانب والمتمصرين، والشوام أدى إلى بعض الحركية فى الثقافة المصرية، وفق معناها العام، نمط الحياة الحديث، والمقاهى الأوروبية والشعبية، نظام الزى، تعلم اللغات الأجنبية، الفرنسية والإنجليزية، التعليم المدنى الجاد، قيم المدنية الحديثة نسبيًا، وترافق مع ذلك بروز دور المسرح والسينما وتطور الموسيقى الشرقية بروح وأداء مصرى، والغناء والملحنين والفنون التشكيلية والكاريكاتير، والصحافة السياسية، والأدبية، والثقافية.. إلخ.. لا شك أيضًا أن البعثات العلمية الدراسية إلى فرنسا وبريطانيا أسهمت فى تكوين النخبة الثقافية والعلمية بالجامعات المصرية، والترجمة أدت إلى تحريك الثقافة بالمعنى الخاص، وتحول مصر إلى حاضنة ثقافية للمنطقة العربية، لا يمكن أيضًا إغفال تطور الثقافة القانونية الحديثة، مع الثبات، وتمصير القانونين الفرنسى والبلجيكى، ونشأة الجماعة القانونية ودورها البارز فى تطور البلاد السياسى والفكرى. ساعد على ذلك النظام شبه الليبرالى وتعدد الأحزاب السياسية والجدل داخل البرلمان «مجلسى النواب والشيوخ» وحالة الجدل العام شبه المفتوح وضمانات حرية الرأى والتعبير والبحث، ودور القضاء المستقل. لا شك أن نظام يوليو ١٩٥٢ شكل انقطاعًا فى مجال الحريات العامة التى فرض قيودًا عليها، فى ظل نظام ناصر، إلا أنه تمكن من توظيف فوائض هذه المرحلة شبه الليبرالية، فى المجال الثقافى من خلال وزارة الإرشاد القومى بقيادة فتحى رضوان، ثم وزارة الثقافة مع ثروت عكاشة، من حيث توسع هيئات الوزارة، والأهم الاهتمام بالثقافة الشعبية، مع إنشاء قصور الثقافة فى بداياتها، ثم تحولها إلى كيان كبير وضخم من حيث العمالة غير المدربة وغير الكفؤة.. تطورت حركة الترجمة فى العديد من المجالات، خاصة ما يتوافق غالبها مع الأيديولوجية الناصرية لرأسمالية الدولة الوطنية، وحركة التحرر الوطنى، وفى ذات الوقت اتساع دور الحركة المسرحية والنقدية والأدبية وحركة نشر الكتب رخيصة الثمن، كانت الثقافة تمثل طلبًا اجتماعيًا وسياسيًا، وتشكل مع التعليم قيمة اجتماعية.

كان العطب الأساسى فى نظام يوليو الناصرى يتمثل فى إغلاق المجال العام، وتأميم المبادرات الفردية والجماعية وقمع الآراء المخالفة لأيديولوجيا الدولة الناصرية، لكن دوره فى المجال الثقافى كان متميزًا.

ما سبق كان يشكل تاريخًا، ما يمكن أن نطلق عليه التجربة الثقافية الملهمة فى العالم العربى فى تفاصيل المكونات الثقافية فى الآداب والنقد ومدارسه والفنون والموسيقى والغناء، ومدارس الفن التشكيلى وتأثرها بالمدارس العالمية، وأيضًا على مستوى الثقافة بالمعنى العام ودورها فى التغير الاجتماعى، وفى تشكيل وجه النظام وسياساته فى الإقليم العربى.

كانت الثقافة تمثل أحد مكونات القوة الإقليمية المصرية من خلال دورها وتأثيراتها فى المؤثر على اتجاهات الفكر العربى المعاصر، بالإضافة إلى دور بعض مفكرى المشرق العربى فى سوريا ولبنان والعراق، خاصة فى الفكر الفلسفى والقانونى والنقد الأدبى- المدرسة النفسية والمتأنية والنقد الاجتماعى- وفى مجال القصة القصيرة والرواية، والمشاركة الفعالة فى قصيدة التفعيلة مع صلاح عبدالصبور، وأحمد عبدالمعطى حجازى أساسًا، بينما الريادة كانت فى العراق، مع نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وعبدالوهاب البياتى، وبلند الحيدرى وآخرين، ثم مدرسة شعر مع يوسف الخال، وأدونيس وحركية النشر، وحريته فى بيروت والاطلاع على التجارب والمدارس الأوروبية والأمريكية مباشرة.

كانت التجارب القصصية والروائية المصرية متميزة من عميد الرواية العربية نجيب محفوظ وجيلى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، وشكلت مرجعية إلى حد ما فى تجارب الرواية والقصة العربية.

كانت القوة الثقافية المصرية تمثل المركز الثقافى فى المنطقة العربية، وكانت القاهرة مركزًا للحضور والتفاعل العربى، وخاصة للمثقفين والمبدعين العرب إلى حد ما، من ناحية أخرى كان العالم العربى ثقافيًا يدور حول القاهرة والنشر فى بيروت والمتابعة والاستهلاك القرائى فى العراق والمشرق العربى، كان ثمة انقسام بين المنطقة المغاربية، والمشرق العربى، وكان العالم العربى فى المشرق لا يعرف إلا أسماء قليلة من المنطقة المغاربية مثل كتابات محمد عزيز لحبابى فى الفلسفة والشخصانية ومحمد المسعدى التونسى وبعض كتابات ملك حداد ومحمد ديب ومولود فرعون وكاتب ياسين لمن يعرفون الفرنسية، ولم يُعرف المفكر المغربى الكبير عبدالله العروى إلا بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧ لدى قلة قليلة بعد صدور كتابه المهم «الأيديولوجية العربية المعاصرة» الذى صدر بالفرنسية قبل الهزيمة وتُرجم بعدها.

نستطيع القول إن جزءًا من القوة الثقافية المصرية ارتبط ببعض المجلات الثقافية المهمة، مثل مجلة «المجلة» والفكر المعاصر، والطليعة، والكاتب وقوة الصحافة المصرية وعلى رأسها الأهرام، وملحقها الثقافى ودور لويس عوض البارز فى هذا المجال.

كانت القوة الثقافية المصرية جزءًا من القوة السياسية الإقليمية، وأبرز علاماتها فى الوعى العربى.

الملاحظات السابقة تشكل مدخلًا لطرح السؤال الرئيسى: لماذا تراجعت القوة الثقافية والدور الثقافى المصرى فى الإقليم العربى؟

منذ هزيمة يونيو ١٩٦٧ وعودة النظام الناصرى إلى الموئل الدينى عمومًا كان بهدف التماسك الاجتماعى والوطنى فى ظل هزيمة ساحقة تحطمت معها شعارات الأجهزة الأيديولوجية والرمزية للنظام وأدواره الإقليمية والتحررية وطروحه لحل الصراع العربى الإسرائيلى، والقضية الفلسطينية.

من ناحية أخرى، أدت عمليات توظيف الدين سياسيًا إلى بروز تنشيط النزعة المحافظة فى المجتمع فى محاولة للتماسك الجمعى، ومعها بدت التفسيرات الدينية للهزيمة، وأنها كانت تعبيرًا عن البُعد عن الإسلام والمسيحية، وكأن النظام لم يكن يوظف الدين فى سياساته الاجتماعية وأنشأ إذاعة القرآن الكريم، وطوّر جامعة الأزهر.. إلخ!

من قلب عمليات التوظيف الدينى بعد الهزيمة، برزت عملية توظيف خطاب الهوية الدينى المغلق، ومعها أزمة الانتماء الوطنى.

السؤال الأساسى: لماذا تراجعت القوة الثقافية المصرية، وأدوارها فى الإقليم العربى؟!

حركية وتطور الثقافات ترجع إلى قدراتها على التفاعل مع ثقافات عصرها الحداثية، وما بعدها، وما بعد بعدها، أى قدرتها على التفاعل الإيجابى فى إطار حركة نقدية لمدارس الفكر الفلسفى والأدبى، وأيضًا للقيم الوافدة ومعها أنماط الحياة المتقدمة، والأهم استيعاب التقنيات المتطورة ومدى قدرة الثقافة المستقبلة لهذه التقنيات على المساهمة فى تطويرها، ثم ابتكار غيرها لتلائم أوضاع الثقافة المستقبلة ومستويات تطورها العلمى والاجتماعى، وتبدو حركية الثقافات الوطنية، فى مدى قدرتها على إنتاج وتجديد الموحدات المشتركة فوق مكوناتها مع إيلاء أهمية للثقافات التكوينية التى تشكل روافد الثقافة الوطنية الجامعة.

من هنا نستطيع أن نحدد بعض أسباب تراجع القوة الثقافية المصرية فيما يلى:

١- صدمة الهزيمة فى يونيو ١٩٦٧ وآثارها على الثقافة المصرية من خلال انهيار بعض أقانيم الناصرية وبدء سياسة إزالة آثار العدوان، وشهدت هذه المرحلة بعض الجهود الكبرى عسكريًا وفى مناقشة بعض القضايا الداخلية مع بيان ٣٠ مارس ١٩٦٨، ثم مذبحة القضاة فى ٣١ أغسطس ١٩٦٩، حيث عُزل ٢٠٠ قاضٍ، خاصة بعد بيان نادى القضاة الشهير بقيادة المستشار ممتاز نصار فى ٢٨ مارس ١٩٦٨ المطالب بالحريات واستقلال القضاء. ترتب على الهزيمة بروز نزعة نكوصية وماضوية من الفكر الدينى النقلى، وأيضًا من التيارات الحداثية نحو ما قبل ١٩٥٢ وتقاليد الفكر شبه الليبرالى، ونزعة ماركسية أكثر راديكالية، ونزعة ناصرية وقومية تحاول الاقتراب من الإسلام! لا شك أن أجواء الهزيمة أثرت سلبًا على تطور الثقافة المصرية وصورة مصر فى الإقليم العربى.

٢- شكل وصول أنور السادات إلى سدة السلطة بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر نقطة تحول سياسى وثقافى، من خلال مواقفه الزجرية للمثقفين المصريين، وخلافهم مع سياساته، خاصة بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣، واتسعت شُقة الخلاف معهم من اليساريين والناصريين والليبراليين، وسفر بعضهم إلى الكويت وغيرها من بلدان الخليج، وإلى لبنان وبريطانيا وفرنسا للعمل فى الجامعات والصحف والمجلات العربية.

تم إقصاء بعض الصحفيين والمثقفين من الصحف قبل الحرب إلى وظائف أخرى بعد بيان توفيق الحكيم. اتسم أداء النظام إزاء المثقفين والثقافة بالسلبية ودعم العناصر الموالية فى وزارة الثقافة وأجهزتها، وأيضًا فى الصحف والمجلات، لأن الرئيس السادات كان يرى أن المثقفين يشكلون قوة رفض وإثارة للجماهير ضد نظام حكمه! من ثمّ تحولت الأجهزة الثقافية إلى محض أداة فى أيدى الموالين للرئيس واستبعاد المخالفين فى الرأى والمستقلين.

أخطر ما تم من تحولات هو تراجع نسبى بقيمة الثقافة والتعليم وتراجع الطلب السياسى والاجتماعى عليهما، مع نظام الانفتاح الاقتصادى وكامب ديفيد، مع توظيفه الإخوان المسلمين، ثم السلفيين فى نهاية عهده فى مواجهة الماركسيين والناصريين والليبراليين، وصعود الحركة الإسلامية الراديكالية، الجهاد والجماعة الإسلامية ودعاة السبعينيات والهجوم على الأفكار الحداثية، وعلى بعض المثقفين وبدايات عمليات تديين المجال العام والهجوم على المثقفين والمبدعين.

٣- مع ثورة عوائد النفط، ظهرت صحف ومجلات عربية، فى دول الإقليم النفطى والعراق، وبيروت وباريس ولندن استوعبت كتابات المثقفين والصحفيين المصريين، وكتّاب المشرق وبعض مثقفى المنطقة المغاربية.

٤- سعت الكويت والعراق لاستيعاب أعداد من الأكاديميين والمثقفين، فى عهد السادات وقبل حرب الخليج الثانية وغزو العراق لها، إلى تحويل الكويت مركزًا للثقافة العربية، من خلال نقل التجربة، والمشروعات المصرية- كأفكار- إليها مثل سلسلة عالم المعرفة وبعض المجلات وسلسلة المسرح العالمى، وغيرها لتصدر من الكويت إلى العالم العربى، إلا أن غزو الكويت أدى إلى تغير فى سياساتها الخارجية، وفى بعض أوضاعها الداخلية.

٥- مع تطور الأوضاع الإقليمية المضطربة، والأزمات الاقتصادية فى مصر، برزت القوة المالية للإمارات العربية المتحدة، ودولة قطر، وقناة الجزيرة ومعها نشأت مراكز للبحث السياسى والاستراتيجى، والصحف والتلفازات والجوائز السخية، مثل البوكر وكتارا فيما بعد، وجوائز الشيخ زايد، أثرت هذه الجوائز السخية التى تشكل إحدى علامات توظيف الجوائز والمؤتمرات الثقافية كجزء من السياسة الخارجية لدول النفط العربية، ولصعود دورها فى ظل تراجع القوة الثقافية المصرية ودول المشرق العربى. كان من أثر هذه الجوائز السلبية خلق حالة من الكتابة السردية الموسمية من أعداد كبيرة من الروائيين- أيًا كانت مستوياتهم من الموهبة والخبرة والإنجاز- بهدف التقدم لهذه الجوائز، خاصة من دول العُسر المالى العربى ومنها مصر.

٦- الانفجار السردى السنوى، مصريًا وعربيًا، أثر سلبًا على مستويات الحالة السردية المصرية، خاصة الأجيال الجديدة، بعد ٢٥ يناير ٢٠١١ فى مصر والانتفاضة التونسية والفوضى والاضطراب فى الإقليم!

٧- حاولت الدول العربية من خلال الجوائز والندوات والمؤتمرات، ولا تزال، نقل مركز القوة الثقافية إلى الإمارات وقطر، ومؤخرًا المملكة العربية السعودية، فى ظل دور ولى العهد ومشروعه السياسى لتوسيع الطبقة الوسطى ورفع بعض القيود السابقة عليها، ودعم المرأة لتكون قاعدة حكمه المستقبلى وتبنى ثقافة الترفيه فى هذا الإطار، واستيعاب بعض المطربين والمطربات المصريين والعرب، ومعهم الممثلون والممثلات.. إلخ.

٨- استقطبت المراكز الجديدة فى البداية، المصريين ثم المشرق العربى لخلق تنافس بينهم، ثم لجأت إلى المنطقة المغاربية، لاستقدام الأساتذة الجامعيين والمثقفين والنقاد فى مواجهة المشرق العربى ومصر.

٩- برز دور المنطقة المغاربية فى المجال الثقافى نظرًا للصلات الواسعة مع فرنسا وبلجيكا، وبروز الترجمات فى النقد الأدبى والسرديات، والفلسفة، وعلم الاجتماع على نحو بارز خلال الفترة من عقد الثمانينيات إلى الآن، وبرز بعض المشاريع الفكرية لبعض كبار المفكرين، كـ«محمد عابد الجابرى»، وقبله عبدالله العروى ومحمد سبيلا ومحمد أركون، ومدرسة عبدالمجيد الشرفى فى تونس للدراسات حول الإسلام، وتلامذته البارزون. 

لا شك أن تطور الدراسات الفلسفية، والسوسيولوجية والأنثربولوجية فى المنطقة المغاربية، محمد المعزوز مثالًا، حلت محل تدهور الفكر الفلسفى فى مصر، على الرغم من الأدوار التى لعبها المتفلسفة المصريون تاريخيًا، حتى عقد السبعينيات من القرن الماضى، وهو ما يرجع إلى سيطرة العقل الدينى النقلى وتدهور الدراسات فى كليات الآداب فى مصر والحقوق.. إلخ، مع انفجار الجامعات الإقليمية! وتدهور مستويات البحث لدى الأكاديميين- إلا استثناءات- والتعليم الجامعى والعام.

١٠- أدت مناورات الإدارات الثقافية فى دول اليسر النفطى العربى، إلى اللعب السياسى والثقافى، مع مصر، والمشرق العربى، من خلال توظيف مثقفى المنطقة المغاربية مع بروز إبداعات سردية فى المغرب وتونس والجزائر وليبيا.

١١- من أسباب تدهور القوة الثقافية المصرية، هو طابعها النقلى عمومًا وميلها إلى إعادة إنتاج وتمجيد ماضيها الثقافى، والأهم انكسار الجسور مع الفكر الكونى فى أوروبا، وأمريكا والصين وآسيا وإفريقيا، وثقافات العالم الأخرى، وبطء حركة الترجمة، وعدم وجود خطط للترجمات عن لغات العالم، والأخطر حالة شبه انعزالية عن الفكر العربى ومراكزه الجديدة، وسيطرة بيروقراطية منعزلة فى إدارة هيئات وزارة الثقافة.

١٢- تركز الأنشطة الثقافية الاستعراضية، فى المركز حول القاهرة والإسكندرية من السادات إلى مبارك، وانقطاع الصلة بين المبادرات الثقافية الأهلية وجهاز الدولة الثقافى وهيئاته المختلفة، ناهيك عن جمود فكر غالب التيارات وعدم متابعتها ما يحدث فى الإقليم والعالم لاعتماد الندب على مدرسى وأساتذة كليات الآداب، وأكاديمية الفنون بكل مشاكلها!

١٣- تعدد المراكز الثقافية العربية- بعيدًا عن الأبعاد السياسية وراءها، لا سيما فى إقليم النفط- هو أمر إيجابى للثقافات العربية، ومن ثم ينبغى التعامل معها وفق سياسات للتكامل والحوار بين هذه المراكز، حتى فى ظل التنافس المشروع، الذى يعتمد على ضرورة أن يكون قادة الهيئات الثقافية المصرية، ذوى كفاءة عالية، وخبرات وعقل خلاق، وليسوا محض بيروقراط يؤدون أعمالهم، وفق التوجهات، أو سياسة الخوف والحذر من المبادرات غير النمطية، وخارج المألوف.

١٤- لا تجديد ثقافيًا دونما حرية للفكر والعقل الحر وحمايته من العنف، أيًا كان لفظيًا أو ماديًا أو رمزيًا، لأن التجديد ابن الحرية، والمغامرات الفكرية والإبداعية، وهو ما يأتى من خارج السياجات الدينية والسلطوية والبيروقراطية.

السؤال الثانى: كيف يمكن للمركز الثقافى المصرى أن يستعيد حيويته فى علاقته بالمراكز الثقافية العربية الأخرى؟!

تنطلق إجابتنا من التنوع فى المراكز الثقافية العربية ومشروعية ذلك، بل ودعمه، والأهم التعاون والتكامل مع هذه المراكز فى إطار التنافس الحر المشروع، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال السياسة الثقافية فى هذا الجانب، على النحو التالى:

١- التعاون والتفاعل الثنائى مع الدول وأجهزتها الثقافية الرسمية، والمنظمات الأهلية العاملة فى المجال الثقافى، وذلك من خلال ما يلى:

أ- المؤتمرات الثنائية بين كبار المثقفين والمفكرين والأدباء والموسيقيين والنقاد، والفنانين التشكيليين، سواء فى شكل ورش عمل حول موضوعات محددة، أو قضايا عربية عامة فى كل تخصص، هذه المؤتمرات الثنائية لا بد أن تكون مرة أو أربع مرات سنويًا مع كل بلد على حدة، وذلك لبناء التفاهمات والمشاريع المشتركة.

ب- مهرجانات سينمائية مشتركة، وحفلات كل عام.

ج- سوف يساعد ذلك على الإثراء المتبادل ثنائيًا، بعيدًا عن المهرجانات والمؤتمرات الجامعة التى تسيطر عليها البيروقراطيات الحكومية، ومصالحها المتبادلة.

د- التنسيق فى مجال الترجمة عن اللغات الأجنبية، وعمل مشروعات مشتركة ثنائية.

هـ- تنشيط المبادرات الفردية والأهلية ودعمها فى هذا المجال الثنائى.

و- التفاعل الثنائى أكثر تأثيرًا من المؤتمرات العربية الجامعة، التى لا تؤدى إلى بناء مشاريع جادة، وهدفها استعراضى وسياسى بيروقراطى.

٢- مؤتمرات وأنشطة ومهرجانات مشتركة على أساس تقسيم العالم العربى إلى أقاليم ثقافية: إقليم النفظ، إقليم المشرق العربى، إقليم السودان وليبيا، وحوض النيل، الإقليم المغاربى، حول قضايا وأنشطة ثقافية، رسمية، وأهلية لمزيد من بناء الموحدات، والتفاعلات الجادة، دونما استعراضات تؤدى إلى مشروعات عابرة لدول الإقليم.

٣- تعتمد هذه الأنشطة الثنائية والإقليمية على الوجود فى مناطق خارج العواصم، لخلق جسور مع المناطق الريفية والصحراوية المهمشة عربيًا ومصريًا.

٤- أنشطة عابرة للأقاليم الثقافية العربية ومراكزها المتعددة سنويًا.

لا شك أن هذه السياسة، من وجهة نظرى، ستؤدى إلى تجديد الثقافة المصرية عبر التفاعلات الجادة، لا الاستعراضات والمهرجانات الرسمية والمؤتمرات التى لا ظل لها على الثقافة المصرية والثقافات العربية.