رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى محبة خيرى شلبى

فى ليلة شتوية، فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى، ذهبت بصحبة الراحل الكبير الأستاذ إبراهيم منصور إلى منطقة قايتباى لمقابلة الأستاذ خيرى شلبى، كنت نشرت عددًا محدودًا من القصائد تؤهلنى للجلوس وسط الكتّاب المعروفين.

وهو كان لا يأنس بسهولة لأى وافد جديد، ولحسن حظى نجحت فى كسب مودته بسرعة، لدرجة أنه دعانى، بعد إغلاق مقهى الجنيه «المرسوم على الجنيه» الذى كان يجلس إليه، إلى حوش فى المقابر يجلس فيه مجموعة من «السهيرة».

أحببت شخصيته، وشعرت بأننى مع شخص من قريتى تربطنى به صلة قرابة، كانت ليلة عامرة بالشعر والحديث عنه، كان يحفظ قصائد فؤاد حداد عن ظهر قلب، وتعرفت من خلاله على شعر أمين قاعود، شقيق الشاعر الكبير فؤاد قاعود الذى يصعب نشره، كان قد كتب عددًا من الروايات المهمة مثل «اللعب خارج الحلبة» و«الشطار» و«السنيورة» و«رحلات الطرشجى الحلوجى».

ولكنها لم تلق الحفاوة النقدية الكافية، ليس بسبب الضعف الفنى لا شك، ولكن بسبب خصومته مع الشيوعيين وهجومه عليهم فى مقالاته، كان يشعر بأنهم سبب تأخر شهرته، رغم أنه كان أكثر نجومية من معظم كتّاب الستينيات بسبب تردد اسمه كثيرًا فى الإذاعة من خلال المسلسلات والسهرات التى يكتبها.

صرنا صديقين، وتوطدت العلاقة أكثر عندما تزاملنا فى العمل فى إحدى الصحف العربية حتى مطلع التسعينيات، إلى أن أصدر روايته الفريدة «الوتد» عن دار المستقبل العربى، والتى نبهت الجميع، حتى الذين كانوا يناصبونه العداء، إلى رافد عظيم جديد فى فن الرواية العربية، كانت روايات أمريكا الجنوبية المترجمة قد عرفت طريقها إلى القراء، وشاع مصطلح الواقعية السحرية، بعد قليل اكتشف النقاد كنزًا سحريًا فى أعمال خيرى شلبى لا يقل عن ماركيز وأمادو وغيرهما.

تجربته القاسية فى الحياة، والمهن الغريبة التى امتهنها فى الإسكندرية ودمنهور والقاهرة، معرفته بالسير الشعبية، علاقاته بصناع الغناء، علاقاته بالمجاذيب والمتصوفة فى الأحياء الشعبية، ثقافته العريضة، كلها روافد جعلته حكاء المصريين جميعًا، كان سعيدًا بالحفاوة التى نبهت الجميع إليه بعد «الوتد»، وشعر بأنه نجح فى فرض إيقاعه، وبدأ انطلاقته الكبرى الواثقة بعد ذلك، من خلال:

- ثلاثية الأمالى، أولنا ولد، ثانينا الكومى، ثالثنا الورق، وكالة عطية، موال البيات والنوم، صالح هيصة، صهاريج اللؤلؤ «عن عبده داغر»، صحراء المماليك، زهرة الخشخاش، نسف الأدمغة، أسباب للكى بالنار، بغلة العرش، موت عباءة، لحس العتب، منامات عم أحمد السماك، والأخيرة مجموعة أحلام للعم أحمد حماد السماك، رحمة الله عليه، والذى اعتبره العم خيرى ملهمًا وصديقًا له.

انحازت أعماله للهامشيين الذين لا يعرف محترفو الكتابة عنهم شيئًا، كتبها بلغة حريفة مثل شخصياتها، أعمال أرّخت للعذابات الصغيرة التى إذا وضعتها جنب بعضها ستتعرف على مصر التى لا تظهر فى التليفزيون أو الصحف، لقد سعدت بقراءة أعمال كثيرة وهى ساخنة، وكنت أنتظر اليوم التالى لأتابع ما أنجزه فيها، مع إبراهيم منصور ومحمود الوردانى ولطفى لبيب وآخرين.

كان خطه جميلًا برغم أنه لا علاقة له بالخطوط المتعارف عليها، هو أقرب إلى خطوط لغة قديمة مقدسة، حروف أقرب إلى الرسم، لكنه خط مبين وواضح، وكان حين تعجبه قصيدة لى كان يكتبها بهذا الخط، كان سريع الغضب، ولكنه حين يصفو، تعلو وجهه ابتسامة آسرة لا يمكن نسيانها، علاقته بكتّاب جيله كانت مرتبكة، شهدت مشاحنات، وبُعدًا واقترابًا.

فمثلًا كان التلاسن بينه وبين العظيم إبراهيم أصلان لا يتوقف، وهو تلاسن منشور فى الصحف، ولكنهما صارا أقرب صديقين منذ أواخر التسعينيات، وكان حزن أصلان، الذى رحل بعده بشهور قليلة، جليلًا، كان خيرى شلبى موهوبًا كبيرًا، ليس فى فن الرواية والقصة القصيرة فقط، ولكن فى قراءة الشخصيات، هو أفضل من يكتب عن البشر.

يكتب بفراسة ابن البلد والفلاح، يكتب بلغة تنهل من خبراته مجتمعة، وله كتاب أعتبره من عيون الأدب، لا يمكن تصنيفه، هو كتاب «بطن البقرة» الذى يحكى تاريخ أربعة أحياء قاهرية، كتبه بخبرته مع المكان والبشر والتاريخ، ناهيك عن كتاباته عن المسرح والتاريخ، حين تعرفت عليه كان فى الخمسين، وكنت فى نصف عمره، وقطعت معه رحلة شجية ودودة إلى أن رحل عن عالمنا فى مثل هذه الأيام قبل أحد عشر عامًا، وتعلمت منه الإصغاء إلى الحكايات الصغيرة التى ألهبت خيالنا وجعلتنا نشعر بأن لنا عزوة حين تضيق علينا الدنيا.