رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وطن يعطينى مرتبًا شهريًا على تمردى

لا أعرف ما هذه اللذة التى يستشعرها البعض فى ممارسة الكذب والتضليل وتبادل الشائعات؟ ما هى المتعة التى يتشبث بها البعض عندما يرجعوننا إلى الوراء حيث أزمنة وعواطف وأفكار ومواقف، مسرطنة بالعفن ومتقيحة بالصديد، وطافحة على الجلد بالبقع والدمامل؟
أهؤلاء البعض من كوكب آخر، كائنات فضائية تغزونا لتلتهمنا وتكسر عظامنا وتسحقنا لتعيد تشكيلنا من جديد حسب قواعد وقوانين الكوكب التى هبطت منه؟
أهم من سكان هذا الكوكب، أهم من سكان مصر، الوطن الذى ليس لدينا غيره وليس لديه غيرنا؟ 
هؤلاء البعض المتحمسون لكى نبدأ من الصفر وننسى الثورة المصرية وننسى الشهداء الذين حلموا بمصر أقوى وأعدل وأجمل، لماذا يفضلون الهدم بدلًا من البناء والظلام على النور والخذلان على الكرامة ولن يهدأوا حتى "يخربوها ويقعدوا على تلها"؟
من المؤكد أن هؤلاء لديهم أوطان بديلة عن الوطن المصرى، وكل ما يشغلهم هو منافع شخصية ضيقة الأفق، لا ترى أبعد من قدميها، ولأن المنافع الشخصية مغرية جدًا فإن قلائل على مر الأزمنة وفى كل مكان، هم الذين استطاعوا مقاومتها وفكروا ألف مرة قبل الانقياد لها، والغرق فى أوهامها.
ومن التاريخ نعرف أن هؤلاء القلائل نساء ورجالًا هم الذين بنوا الأوطان وحافظوا عليها بالفكر المنفتح والعمل الجاد والتشبث بالحقيقة وبحب الوطن الذى هو دائمًا فى حاجة إليهم. حتى لو كتم الوطن أنينه وضم أحزانه إلى قلبه كانوا قادرين على سماع صراخه الكامن وتلبية النداء فورًا كل حسب طاقته وقدراته ومواهبه.
من التساؤلات التى تلازمنى دائمًا هى ما هو الوطن الذى أريده أن يحمل اسم "مصر"؟ ما هو هذا الوطن الذى يتحدى ليس فقط هؤلاء البعض الشغوفين بتأخره، وشده إلى أزمنة تنفر منها الإنسانية، ولكن يتحدى كلمة  المستحيل نفسها والتى ألغاها الإمبراطور الفرنسى نابليون بونابرت 15 أغسطس 1769 - 5 مايو 1821، من أبجديته وقد كان من رموز  واحدة من أعظم ثورات التاريخ، وهى الثورة الفرنسية 5 مايو 1789 - 9 نوفمبر 1799؟
ماذا أحب لمصر وطنى، ووطن أقدم الحضارات ومعلمة وملهمة حضارات وأمم؟ ما هو الوطن الجميل الذى يداعب يقظتى ونومى؟ أهو الوطن الرحب ذو الأذن الموسيقية الراقية الذى لا يجد تناقضًا بين الاستماع إلى موسيقى "القصبجى" وموسيقى "موتسارت"؟ يتذوق "أسمهان" و"فايزة" مثلما يتذوق "إديث بياف" و"شيرلى باسى"، يصفق لصوت "فريد" كما يفعل مع صوت "فرانك سيناترا"؟.
أهو الوطن المؤمن بضرورة تقليص الفوارق الطبقية بين الناس؟ أيكون هو الوطن الذى يصنع أرغفة الثقافة والفن والأدب والسينما والمسرح والغِناء والصحافة، بوفرة وجودة رغيف الخبز؟ أو ربما يكون هو الوطن الذى ينسف دون رجعة ضوضاء مكبرات الصوت، الشرسة، المتنمرة، المنتهكة، للخصوصية، والهدوء، وحُرمة المسكن، المتسببة فى التلوث السمعى، والحضارى، الجاهلة بشىء بديهى اسمه "الحساسية للآخرين"؟
أيمكن أن يكون الوطن، اليقظ، الذى يقطع الطريق على وسطاء وأوصياء الدين والثقافة والأدب والأخلاق والأحوال الشخصية، يفسدون العلاقة بيننا وبين عقولنا وأجسادنا يغطون النساء بالأقمشة والطاعة المقدسة للذكور، يضعفون مناعتنا الذاتية بالخرافات والأكاذيب والشائعات والتضليل؟
أهو الوطن الذى يتكلم عن الحرية بالوقار والهيبة والانبهار، الذى يتكلم به عن لاعبى الكرة، وزوجات رجال الأعمال ونجمات السينما وملكات جمال الحجاب؟
أم تراه الوطن، الذى يكفل خدمة طبية فاخرة لمنْ لا يملك إلا اعتلال جسمه وقوت يومه؟ الوطن الذى يحترم حرية الاعتقاد واللاعتقاد وحرية الإبداع وحرية التعبير وحرية الصمت وحرية العنوسة والعزوبية وحرية خروج الزوجات دون الإذن العبودى من الأزواج وعدم إنجاب الأطفال "أحباب الله"؟
هل الوطن المصرى الذى لا يفارق خيالى هو الوطن الآمن من الإرهاب الدينى المسلح والإرهاب الفكرى غير المسلح؟ هل هو وطن لا يمارس التجريح الشخصى والشتائم والبذاءات والمزايدات الفجة باسم الوطنية والفضيلة والسلف الصالح؟
أم هو الوطن الذى يأكل من عرق جبينه وينتج من دوران ماكيناته مكتوب عليها بعزة وفخر: "صُنع فى مصر".. وطن يجرم قمع النساء وشرب الأطفال من ترع البلهارسيا، وتنتشر فيه مقاهى البكاء والحزن قدر انتشار مقاهى المرح والرقص والغِناء؟
مقاهى مختلطة الجنسين فى الهواء الطلق، يتبادل فيها الشابات والشباب والنساء والرجال، أنبل المرح وأرقى الأمسيات التى تغنيهم عن التدخين وحمل السكاكين وشرب المخدرات وإدمان الحبوب ضد الأرق والاكتئاب واليأس؟
أيكون وطنى الجميل، وطن ينتصر لوسائل نقل عام تحترم إنسانية الناس بسلام وأمان تنقلهم من مكان لآخر دون حوادث، دون أن تنقل لهم أمراض تسرب العادم؟
وطن توجد فيه العدالة داخل قلوب البشر قبل أن توجد فى كتب القانون فى كليات الحقوق ومكاتب المحامين ومنصات القضاء؟
وطن لا تستخدم فيه النساء الماكياج والمجوهرات والأزياء الفخمة ولا تلجأ إلى آليات التجميل التى تمحو بصمات الزمن؟
وأكيد هو وطن يفض الاشتباك الموروث المضحك المخزى غير العادل، غير الشريف، بين غشاء البكارة ومفاهيم الشرف والرجولة.
ودون أدنى شك، هو وطن لا يضايقه غضبى وانتقاداتى، تسعده أحلامى المتشبثة بكل الخير له، وفى آخر كل شهر يعطينى مرتبًا سخيًا على مشاكساتى وتمردى، لسبب بسيط أنه وطن كبير واثق فى نفسه وفى حضارته الثابتة فى عمق الأرض.
وهو يعلم من التاريخ أن الأوطان تزدهر بالتمرد والتساؤل، وأن الوطنية المخلصة تبدأ وتنتهى بالاحتجاج، بل إنه يعتبر الصوت المتمرد من ضرورات الصحة الوطنية والعافية الحضارية وضرورة لا غنى عنها للانتصار والتألق.

من بستان قصائدى 
أريد أن أشعر
أن جنسية الوطن التى أحملها
أكثر من بيانات وتواريخ
ختم هنا وختم هناك
توقيعات غريبة كأنها
من كوكب المريخ
كلام مبهم لا أحتاجه
مجرد حبر على الورق
أريد أن أجد فى الوطن
منْ يزرع صحرائى
إذا غاب عنها المطر
يطعمنى يدفئنى يسقينى يداوينى
يصرخ محذرًا أن حريتى فى خطر
وطن يجيد فن السباحة
وأنا أوشك على الغرق