رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مقام راحل «3» 

اتصل بى «شريف»، اتفقنا أن نلتقى على الغداء، تجهيزات المتحف على قدم وساق، اقترح أن نلتقى فى المينا هاوس، منذ مدة لم أتناول طعامًا هنديًا. 

أحاول أن أكسر رتابة العالم، وعندما ألتقى مع « شريف» أشعر أن الصخب والضجيج هما المكان المناسب للقاء به، «شريف» لا يختار مكانًا هادئًا لنلتقى فيه، نادرًا ما يأتى للبيت، لقاءاتنا دائمًا فى النادى، الملاهى، السينما، لا نلتقى لمجرد اللقاء، ماما هنتغدى ونتكلم، ماما محتاج سلفة، ماما إيه رأيك فى المشروع ده؟ هناك دائمًا سبب يحيط بلقاء الأمومة والبنوة الذى أحاول توهمه، يختار من الأماكن أزحمها، الإضاءة الشديدة، المبهرة، تكون الطبقة الأولى من اللقاء أنه يريد فقط أن يجلس معى ويطمئن علىّ، لكن المطعم أو المكان الذى يختاره أبعد ما يكون عن تحقيق الهدوء أو التفكير، أوافق على ما يريد، كى أتخلص من إلحاحه ومن زحام المكان، أو ضغط التفاصيل التى تتراكم على حواسى.

اختار مطعمًا هنديًا.. منذ اللحظات الأولى، يبدأ التشويش على حواسى، بمجرد أن خطوت داخل المطعم حتى كان فى استقبالنا فيل بـ«زلومة»، اندهشت لكم الألعاب القديمة والساقين المثنيين للإنسان المحبوس داخل هذا المجسم المنفذ بإتقان، والصوت، مع بهرجة القماش، واصطحبتنا الموسيقى الهندية حتى الترابيزة التى حجزها شريف فى نهاية المطعم، جلست بجانبه، وجلس بما يسمح له أن يرى كل ما يحدث فى محيط المطعم.

الديكورات والرسومات الذهبية، أوراق الشجر الخضراء الاستوائية، الرسومات على الحوائط، كلها تقلد الجو الهندى، قدم لنا شاب المنيو ومعه وضع المقبلات: المقبلات صوص زبادى بالنعناع والفلفل، المخلل الحار والذى هو قطع من المانجو يجمع بين المزازة والحلاوة، وطبق الزبادى بالأناناس. 

بعد هذه المقبلات تركت لشريف اختيار الطبق الرئيسى: اختار أرز «حيدر أبادى» بالدجاج أو باللحم، ولاسونى تكا. 

- هيعجبك ذوقى. 

- طبعًا.

رددت آليًا، لماذا اختار «شريف» مطعمًا هنديًا؟ 

هذه الكثافة والثقل المتمهل فى خطوات فيل، أو لون الذهب الفاقع، يقرب منى طاجن الأرز حيدر أبادى، يرفع جارليك بان، من تحت العيش المخبوز تصدمنى كثافة رائحة التوابل الذائبة فى البخار الساخن، تلهب الحرارة عينى.. تنتابنى حالة من السعال.. تنساب الدموع من عينى، يمد شريف يده بعلبة المناديل، سلامتك يا حبوبة، يربّت على يدى، تستنفر ربتاته، مشاعر قديمة، تبدو محاولته، كمزيد من محاولاتهم القديمة لتنويمى، أستجمع نفسى.

- شكرًا يا حبيبى، قل لى السر بقى.

لم يظهر اندهاشًا أو يناور: أريد أن نتشارك فى مشروع. 

- أى مشروع؟ 

- لن أحتاج منك سوى ٢ مليون جنيه، وسيعودون لك ملايين.

- هل للموضوع علاقة بتجارة الآثار؟ 

لم أكن فى كل الأوقات بريئة، فى كل مرة يرسل لى قطعة آثار مزيفة، كنت واثقة أن 

«سامر» خلف الموضوع، تقييم القطع الأثرية، ونسبتك؟ 

- بابا، لا يعرف شيئًا عن هذه الصفقة. 

أردت أن أكسبه وأن يكون بيننا سر، قلت له: أنا سامعة، اشجينى.. 

- سمعت عن البيتكوين؟ 

- قرأت اسمها فى بعض المواقع. 

- دى عملة إلكترونية، نشتريها من مواقع، وفى دبى ممكن نشتريها من ماكينات إيه تى إم.

- كويس، أنا داخلى إيه بالعملة دى؟ 

- أنا عايزك تشاركينى، ونشترى ١٠٠ بيتكوين ٦١ ألف دولار.

- أنت عارف يعنى إيه ٦١ ألف دولار؟ 

- هيضاعفوا يا ماما، من عشر سنين كل ١٠٠٠ بيتكوين بدولار، دلوقتى، البيتكوين الواحد بـ٦١٠ دولارات. 

- شريف، أنت بتتكلم فى حاجة، أنا مش فهماها، يعنى إيه عملة إلكترونية؟ مين يضمنها؟ أنت شايف الجنيه، الدولار بقى، وبعدين مقدرش أطلب من جدك؟ 

- أنا مش عايز حاجة من جدى، من حسابك يا ماما، حسابات الدولار؟ حسابات تقييم الآثار، أنا محتاج تحويل واحد من حساباتك بالدولار. 

نظرت له:

- يتحدث بنبرة لا تخلو من تهديد، ضغط، نبرة ليست فيها بنوة، استعطاف، صوت ند، وليس تحنان ابن وأم.

وضعت الملعقة فى كأس الآيس كريم بجوز الهند، أزحت الجوز المبشور فوق اللون الأبيض الحليبى، لم تكن هناك حاجة لمزيد من الزخرفة.